المقالة

من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (3)

التوارق هم: الأصالة، الشهامة، الكرم، الصدق، سموّ الأخلاق وعلوّ الهمة..

من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (الصورة: الدكتور عبدالعزيز الصويعي)
من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (الصورة: الدكتور عبدالعزيز الصويعي)

وصل الحاج “محمّد بوشه”، سلّم على الحاضرين، ثم أشار إليه “الأفندي محمّد” بالجلوس على الأريكة الواقعة على يساري، لأنني كنت المعني بإحضاره.. أزاح اللثام من على وجهه فظهر لي رجلٌ وقور، شخصيةٌ قوية واضحة، ملامحٌ تارقية صارخة، في حدود الستين من عمره.. لن نخوض في أي حديث لأنني وجهتُ له السؤال مباشرة: “قيل أنك تعرضتَ لحادث قرب الكاف، كيف حصل ذلك..؟” أدار وجهه للجهة الأخرى وهو يردد: “بلاها، بلاها”.. ولكنه أخيراً رضخ لرغبتي بمساعدة “الأفندي”.. وما هي إلا برهة من الصمت حتى إلتفت إلى “الكاف” وحدّق فيه ملياً ثم تنهّد بقوة ونظر في وجهي بعينين شبه مقفلتين، واسترسل في سرد الحكاية، قائلاً لي:

كنت ذات عشية أقضي بعض شؤوني وأجمع الحطب في البرية غرب “الكاف”.. وعندما بدأت الشمس تميل نحو الغروب قررتُ العودة إلى البيت، غير أن سيارتي، وهي نوع (داتسون دوبيو قبينة) غرقت عجلاتها في رمل خفيف يغطي وادِ جاف منحدر من القمة الشمالية لـ”الكاف”، وكلما أدرتُ المحرك بقوة زادت العجلات في الغوص في الرمل حتى صارت تدور في الفراغ.. وأنا ما زلتُ أكدس الحجارة تحتها دون جدوى.. لقد دخل وقت المغرب.. فأخذتُ سلاحي وأوراقي من السيارة وهممت بالعودة سيراً على الأقدام.. لم أتحرك أكثر من خطوتين حتى سمعتُ دوي محركات سيارات وأصوات، توقفت وإلتفتُ إلى الـخلف، وإذا به رتل من سيارات (لاندروفر) عسكرية جديدة يقف أولها عند سيارتي وآخرها يبدو بعيداً على قمة “الكاف”، إختبأت وراء صخرة ضخمة لأراقب ما يجري.. لقد تجمع الجنود خارج السيارات، كلهم من ذوي الملامح التارقية يلبسون لباساً عسكرياً صيفياً موحداً نظيفاً ومكوياً (نص كم) لونه (كاكي) وتتدلى من أحزمتهم مصابيح يدوية (تريسيتي) ولا يحملون أسلحة.. حاولتُ استراق السمع لفهم لغتهم واكتشاف هل هم قوات وطنية أو قوات معادية، ولكن كلامهم كان همهمات غير مفهومة، رغم أن الليل بدأ يفرض سكونه.

يبدو أن الجماعة علموا بي مختبئاً خلف الصخرة، فشكلوا نصف دائرة وتناولوا (التريسيتي) من أحزمتهم وأضاؤوها في وجهي الذي يبدو أنه صار مكشوفاً لهم، وبدأوا يتقدمون نحوي.. سحبت أقسام سلاحي ربما كنتُ أنوي الدفاع عن نفسي، ولكنني تذكرتُ نصيحة الشيخ بعدم إطلاق النار قرب “الكاف”.

ثم يعلق قائلاً لي: لم أعرف الخوف في حياتي، ويعرفني الجميع أنني أقدم على المخاطر ولا أدبر، ولكن كمية الخوف التي خيمت عليً تلك اللحظة لم أشعر بها من قبل، لأول مرة شعرت بشعر رأسي كأنه ينفذ من عمامتي وجسدي يرتعد ودقات قلبي تتسارع من شدة الخوف، فالتجأت إلى كلام الله، أصيح بأعلى صوتي وأنا أقرأ ما أحفظه من آيات وقصار السور.. عندها اختفى المشهد وكأن شيئاً لم يكن، لم أعد أرى سيارات عسكرية ولا جنودا.

من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (الصورة: الدكتور عبدالعزيز الصويعي)
من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (الصورة: الدكتور عبدالعزيز الصويعي)

لم تمضِ لحظات استرجعتُ فيها قوتي والتقطتُ بقية أنفاسي، حتى عاد المشهد كما كان، ونور (التريسيتي) يبهرني والجماعة تتقدم نحوي وتقترب مني.. ويبدو أن الخوف تمكن مني هذه المرة فتحاملتُ على نفسي ونهظت وخلعتُ نعلي وأخذتها جرياً دون أن ألتفت ورائي حتى وصلتُ البيت.. وكانت المسافة التي قطعتها جرياً ليست هينة، حيث وصلتُ البيت قرابة منتصف الليل.. فدخلتُ إلى البيت دون أن أنبس ببنت شفة رغم استفسار إبنة عمي عما جرى لي، فطلبت منها فقط أن تضع فوقي غطاءً ثقيلاً، ففعلت.. وفي الصباح حضر صهري، فلم أخبره بما حصل، بل طلبتُ منه أن يأخذني إلى سيارتي ويساعدني على إخراجها من رمل الوادي.. وعندما وصلنا إلى هناك ذهب هو يتفحص وضع سيارتي، بينما انشغلت أنا بمعاينة مسرح ما جرى البارحة، فلم أجد أثر عجلات سيارات (لاندروفر) ولا وقع أقدام جنود، باستثناء أثار مكاني خلف الصخرة، فالتقطتُ نعلي، وساعدني صهري على استخراج سيارتي وعدنا إلى البيت. ولكنني لم أفصح على ما حصل لي تلك الليلة إلا بعد مدة طويلة.

ويختتم قصته معلقاً: الجماعة جاءوا لمساعدتي ولكنني كنت غبياً وقتها ولم أفهم قصدهم.. وهم عرفوا أنني توجستُ منهم خيفةً عندما قرأت القرآن فاختفوا عن نظري أكثر من مرة.. (الخاتمة في الحلقة القادمة).

مقالات ذات علاقة

خمسون العرّاب

جمعة بوكليب

بين السلطة والثقافة

عبدالمنعم المحجوب

بعد أن تصمت مدافع كورونا

صالح السنوسي

اترك تعليق