يثير فيروس كورونا جدلا واجتهادات حول ما يمكن أن يؤدى إليه من مآلات، ولكن كيفما كان نصيب هذه الاجتهادات من الصحة أو من الخطأ، فإن من المؤكد أن هناك تغيرات ستحدث في العالم سواء كانت سريعة أوبطيئة، فقد أثبتت الخبرة وتجارب التاريخ بأن الأوبئة الجائحية تترك آثارا وتغيرات على جميع المنظومات السائدة في حياة البشر، فالمنظومات القيمية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية سيطالها جميعا التغيير بدرجات متفاوتة سواء كانت فورية أو متتالية، بعد أن تصمت مدافع كورونا وينقشع غبارها.
إن المقصود بهذه التغيرات هو ما ستكون عليه قوة أوضعف السلطة التي تمثلها كل منظومة من هذه المنظومات.
لعل أول هذه التغيرات سيطال السلطة التي تمثلها المنظومة القيمية في بعدها الاجتماعي والأخلاقي والديني من حيث السلوكيات والعلاقات والمسلمات الذهنية، فالملاحظ أن ما كانت تمارسه السلطة الدينية من نفوذ وتأثير في أوقات الأزمات والكوارث تراجع إبان جائحة كورونا عما كان عليه في السابق، ولربما أحد أسباب ذلك هو أن كورونا قطع التواصل المباشر بين رموز السلطة الدينية وبين الجموع في المساجد والكنائس والمعابد، فوجد الفرد نفسه في تواصل مع الله وإذا شاء يستطيع أن يمارس طقوسه فيصلي ويتضرع دونما حاجة إلى وسيط أو دليل، وبالتالي فهو ليس في حاجة لتلك الرموز ولا للذهاب إلى تلك الأماكن طالما أن الله معه في البيت، ولهذا فمن المتوقع أن يحصل قدر من الانفصام بين سلطة المنظومة الدينية وحاجة الفرد الروحية، وقد يجادل البعض بأن العالم سبق له أن مر بجوائح كثير لم تؤثر في سلطة هذه المنظومة، ولكن هذا القول يجانبه الكثير من الصواب فالثابت أن الأوبئة القارية التي ضربت أوربا في القرنين الخامس عشر والثامن عشر، كانت أحد الأسباب التي أدت إلى تقلص سلطة الكنيسة فيما بعد، هذا إلى جانب أن العالم لم يكن في أي زمن مضي على ما هو عليه اليوم بفضل تقدم العلم والمعرفة.
أما في ما يخص المنظومة الاجتماعية في جانبها السلوكي والعلائقي، فإن زلزال كورونا عرضها لهزة مفاجئة وصلت إلى حد فرار الجميع من الجميع، بل وصل الحجر الصحي إلى العزل المنزلي داخل نواة الأسرة وهذا يؤذن بأحد احتمالين، أولهما أن يكون درسا عمليا على إمكانية استمرار الحياة مستقبليا في ظل انفصام العلاقات الاجتماعية، أما الاحتمال الثاني فهو أن يكون ما حدث درسا لوعي الفرد وإدراكه لحاجته الضرورية للعلاقات الاجتماعية نظرا لارتباطها بحريته الشخصية، كمثل السجين الذى يفقد حريته ثم يخرج متلهفا على رؤية العالم واحتضانه ومتشوقا للقاء الآخرين.
إن ما نراه من تضامن عاطفي عن بعد بفضل ثورة الاتصالات ليس دليلا قاطعا على أنه ستكون هناك علاقات إنسانية حارة بعد انتهاء محنة كورونا، لأن ذلك يقابله تقوقع وانكفاء وخوف من أي قادم من خارج الحدود.
لقد تعرض أيضا الجانب الاخلاقي في المنظومة القيمية لامتحان عسير على صعيد قيمة الإنسان وفي أكثر الثقافات تقديسا علنيا لهذه القيمة، فقد تم في بريطانيا تبنٍ ضمني للعمل بقانون البقاء للأصلح طالما أن محاولة إنقاذ الجميع أكثر تكلفة وأقل جدوى، بينما في إيطاليا تم العمل على إنقاذ الأكثرفائدة في مفاضلة بين صغار السن والكبار، ورغم ظاهرة استقبال المرضي الفرنسيين والإيطاليين في ألمانيا فإن هذه اللفتة الإنسانية تبقي رهينة بفائض الأسرَّة في ألمانيا.
أما في ما يخص المنظومة الاقتصادية فإن التغير سيكون – على ما يبدو- في مستوى الخيار الرأسمالي الذى صار صنما رغم تعرضه قبل جائحة كورونا إلى زلزال خطير بتحوله إلى ما أسماه البعض من الرأسمالية الصناعية المنتجة إلى الرأسمالية المالية ، التي أصبحت حاضنة لكل الأزمات الاقتصادية، ولكن كورونا كشفت عن عيوب الكثير من مقولات الرأسمالية ولاسيما في ما يتعلق بحرية الفرد الاقتصادية وضرورة تراجع دور الدولة والقطاع العام، فأمام خطر الموت والفناء الذي يهدد الفرد والجماعة أصبح لزاما على رأس المال الخاص أن ينظم ويقبل تدخل مؤسسات الدولة على حساب أنانية الفرد الاقتصادية، فلم تعد هناك بقعة آمنة على هذا الكوكب يمكن أن يلجأ اليها رأس المال الخاص، فلابد له أن ينضوي تحت قيادة المصلحة العامة وأن ينضم إلى زخم الجهد الجماعي وانضباطيته، والذي يبدو أنه هو السلاح الوحيد الذى يمكن أن ينتصر في مواجهة هذا العدو الكونى، وهذا قطعا سيطرح تساؤلات على مستوى الإدراك الجمعي وعلى مستوى الفكر، حول جدية مقدرة الجماعة على المحافظة على وجودها وتطور حياتها ضمن شروط إنسانية مقبولة في ظل انفلات الأنانيات الفردية الاقتصادية في مواجهة الدولة والمصلحة العامة.
لعل مثل تلك التساؤلات ستعيد الحديث بجدية عن الدولة التي أظهرت محنة كورونا حيوية وجودها وتعاظم دورها وأهمية حدودها السيادية وضرورة انكفائها على ذاتها وما تمثله من حصن أكثر أمانا من نداء الهويات القاتلة ونداء المستثمرين العابرين للحدود، كما أن هذه التساؤلات ستعيد الحديث حول إعطاء اعتبار أكبر للمصلحة العامة في التخطيط والإدارة ووضع ضوابط على حرية قوانين السوق المتوحشة، فإذا ما خرجت كل هذه التساؤلات فإن محاولات الإجابة عنها ستعيد النظر في جميع أطروحات الفكر الاقتصادي الرأسمالي والاشتراكي والتعاوني من أجل البحث عن صيغة تمنع أقلية من الأفراد أن تحتكر وسائل الإنتاج وتظفر بثروة المجتمع ولا تجعل في الوقت نفسه من الناس مجرد أرقام وأدوات تحت شعار المصلحة العامة.
إن الحديث عن المنظومة الاقتصادية يحيلنا بالضرورة إلى المنظومة السياسية وهى أكثر المنظومات التصاقا بها، فالنظام الاقتصادي هو من خيارات النظام السياسي، ولهذا فإن المنظومة السياسية متمثلة في الدولة والسلطة ومؤسساتها والفكر السياسي سيطالها الكثير من عقابيل كورونا فالدولة – كما أسلفنا – ستخرج على ما يبدو أكثر قوة من قبل وذلك بعد أن أضعفتها تداعيات العولمة الاقتصادية والسياسية، فجائحة كورونا التي لم تستثن دول الأنظمة الديمقراطية ولا دول الأنظمة الشمولية، قدمت شهادة تزكية لدور الدولة في مواجهة الأخطار الكونية التي تهدد الوجود البشرى، ولعل المجتمعات بمختلف ثقافاتها لم تشعر بضرورة تدخل الدولة وممارسة دورها بكل حزم مثل ما شعرت به أثناء اكتساح جائحة هذا الوباء للكرة الأرضية وحتى في حالة فشل بعض الدول في المواجهة فلن يكون هذا الفشل ضد فكرة الدولة بل دليلا على أن تلك الدول لم تكن في الواقع دولا.
لاشك أن تعاظم دور الدولة يؤدي إلى تعاظم دور السلطة وتلك هي مفارقة المنظومة السياسية في عصر ما بعد كورونا، فالسلطة إما أن تكون ناتجة عن شرعية الاختيار الحر ومقيدة بالقوانين ولكنها هي ابنة النظام الاقتصادي الليبرالي الذي يسير على رجلي الحرية الاقتصادية والحرية السياسية في دولة رخوة، وأما سلطة ليست ناتجة عن شرعية الديمقراطية الليبرالية في دولة ذات بأس، وفي وسط هذه الربكة لابد للفكر السياسي أن يستجيب ولكن تبدو هناك خشية من أن تهيأ جائحة كورونا فرصة أكبر لظهور نوع من السلطة أكثر تسلطا وأقل اهتماما بالحريات.
أما فيما يخص المنظومة العلمية فهي ليست في مأمن من النقد ولا من التغير، فقد وضعها الوباء على محك تجربة قاسية، كشفت عن الكثير من أوجه قصورها بسبب ضعف جهود تطويرها وتواضع الإمكانيات المرصودة وبطء ردود أفعالها على التحدي المفاجئ، ولكن كل هذا لا يمنع من أنها ستكون المنظومة الأكثر استفادة من كورونا والتي ستكون سلطتها أكثر سطوة ما بعد نهاية هذا الوباء، وهذا يرجع في أحد أسبابه إلى أنها منظومة تتغذى من الفشل والنقد والتغير في سبيل تقدمها، بعكس الكثير من المنظومات الأخرى التي بعضها يتحرج من النقد وبعضها الآخر يعادى التغيير، ولهذا فإن هذه المنظومة بما تمثله من خبراء وباحثين وأخصائيين ومهنيين وأكاديميين ومختبرات ومراكز بحث في كل العلوم، شكلت خط الدفاع الأول للبشرية في مواجهة عدو لا يفرق بين الأعراق والأديان والألوان وبدت في نظر كل المجتمعات أكثر مصداقية من كل المنظومات الأخرى، بل أصبحت هي التي تقود هذه المنظومات بما فيها المنظومة السياسية وأضحت هي المنظومة العابرة للحدود في زمن كورونا في الوقت الذى أصاب فيه الشلل كل القوى والظواهر التي كانت عابرة للحدود في زمن العولمة، كما أنها شكلت شبه سلطة عالمية عبر قنوات التعاون رغم بعض التدخلات التي تقوم بها المنظومة السياسية في بعض الأحيان على غرار المماحكات الأمريكية الصينية.
كانت المنظومة العلمية دائما في مواجهة منظومتين، أولهما هي المنظومة السياسية التي تحاول على الدوام احتواء العلم وتسخيره لخدمة آيديولوجياتها وحروبها، أما الثانية فهي المنظومة الدينية التي تحاول دائما أن تتصدى له بمسلماتها الذهنية، فإذا خرجت المنظومة العلمية منتصرة بعد هذه المحنة، فإن هذا الوباء رغم ما سببه من آلام للبشرية، يكون قد أسدى خدمة جليلة بتسويده لمنظومة هي أفضل ما أنتجه العقل البشرى.