المقالة

المدينة الرمادية

الذكرى الخامسة لرحيل الأديب الليبي يوسف القويري (1938 – 2018)

الكاتب يوسف القويري.

كانت (ميلانو) غارقة في الضباب، كبيرة وعابسة. هكذا واجهتني من بوابة المحطة.

مدينة لا تبشر بوقت طيب. لا أعرف كيف تسرب إلى نفسي هذا الاحساس بالنفور.

وألقيت ممتعضا نظرة إلى الوراء قبل ان اذوب في غلالة البخار البارد.

القطارات راكحة تحت السقوف المحدبة، والحيطان رمادية، وكذلك حافات الأرصفة والبلاط الصغير فيا بينها، وملابس عال المحطة كانت بدورها رمادية، والاعلانات عل الجدران يغلب عليها اللون الرمادي، وعيون الأطفـال الذين يمرعون هنا وهناك بين سيقان الكبار رمادية أيضا، والمكان بأجمعه يبدو غارقا في القدم والكأبة، وكأنه كاتدرائية قوطية أصيب قساوستها بلوثة مفاجئة في عقولهم، فقرروا ان يلعبوا لعبة صاخبة تزيل عنهم السأم، وتنفض من حولهم غبار الصمت المتراكم.

حتى الأصوات داخل المحطة لها في الأذن وقع خاصر، فهي تفر من الحلق سريعة قوية متلاحقة، ولكن سرعـان ما تنتشر تحت السقوف وتعود أصداء باهتة، بطيئة، مضعضعة، توحي بالأسى، وتثير في القلـب أغمض المراجع.

– ماريا.. ماريا.

وينداح النداء في الهواء.. دواثر.. دواثر، تتسع وتخفت بالتدريج، بينا أجراس بعيدة تدق.

– بيتسا!

– كوزا فوي..؟

– كوزا تشيه..!؟

؟

وتنفجر عل رصيف قريب شتيمة كبيرة رمادية:

– فيا.. بستاردو!

لغط.. لغط.. ثم تعلو حنجرة مجهولة، رفيقة، واضحة:

– ايما.. اسبتا.

ويختلط الصوت البشري بصخب الحديد والضجر.

قلت في سريرتي: (لن أستدعي التاكسي)، وقررت أن اقتحم عاصمة الشيال على قدمي، وراقت لي الفكرة إلى درجة انها أنعشت نفسي بشيء من المرح.

ثم هبطت الدرجات الحجرية بمهل، ومضيت مع تيار الناس في الشارع.

لا أحد يلتفت.

الكل يسير فوق الأرصفة بنظام وسرعة، وعلى الوجوه يمتزج الصبر، بقوة الشكيمة والملل. وجوه مستطيلة، صارمة، وأنوف كبيرة. حتى النساء أنوفهن كبيرة، ونسبة الجمال منخفضة بشكل مريع، والسيقان نحيلة.

البضائع في كل مكان، على الأرض وبـين الأذرع، وفوق الشاحنات وعربات اليد.

ها هو الشمال إذن.

مصنع هائل، وكنائس، وضباب.

إن ميلانو لا تبسط يدها للغرباء مرحبة.

وإيحاءات الفن فيها قليلة ومتناثرة ومعصورة في إطار الكنائس التي تمثل قمم فن الهندسة المعمارية.

وعدا ذلك فالمدينة تشعرك بأنها كانـت مهجورة لمدة جيلين أو ثلاثة، ثم عاد إليها أهلها فجأة، ولم يجدوا الوقت الكافي لتنظيفها وترميمها.

مدينة قديمة وشاسعة وكئيبة، تشبه -من بعض الوجوه- (كاتانيا) في أقصى الجنوب، حيث يختلط طلاء المباني بالسواد، وينتشر البلاط الكبير المربع في كثـير من الشوارع بدلاً من الاسفلت، وتوحي مساكنها المتجهمة بالرطوبة والعراقة.

وثمة أحياء حديثة، وعارات شاهقة، ومقاهي أمريكية الطراز، وشوارع جديدة ولامعة وعصرية مئة بالمئة، إلا أنها قليلة، تبدو وكأنها أنزلت بطائرات عمودية جبارة ثم غرست في الأرض غرسا، ولهذا فهي لا تنسجم مطلقا مع أسلوب المعار وأسلوب الحياة السائد هناك، وتبقى بكاملها مجرد إضافة زاهية وقليلة الذوق إلى كآبة تلك المدينة الإيطالية المعتدة بنفسها.

ولـم أندهش لأني صادفت كثيرا من المجانين والمتسولين قبل أن أصل إلى الفندق، ففي مركز صناعي كبـير وكثيب وشديد القسوة واللامبالاة كميلانو لا بد أن تطفو ظاهـرات الجنون والتسول والأمراض العصبية، إلا أنني استغربت من ترك هؤلاء يهيمون على وجوههم.

ولم أجد سوى تفسير واحد للموقف وهو أن المستشفيات المتخصصة وملاجئ العجزة مكتظة إلى درجة لا سمح باستيعابهم.


يوسف القويري (في الأدب والحيلة)، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، الطبعة الثانية 1979م.

مقالات ذات علاقة

مصلحة الكل تكمن في مصلحة الكل ولا تكمن في مصلحة الجزء بالأساس

علي بوخريص

استمر صنماً

نجوى بن شتوان

من خفيف الكلام .. الزمن والزمان

يوسف الشريف

اترك تعليق