شدت الطفلة بطرف رداء أمها الواقفة بالسوق وسألتها أن تشتري لها لعبة.
الأم مشغولة بمعاينة الأواني والصحون ومماكسة الباعة، للمرة الرابعة أو الخامسة تشد الطفلة بطرف رداء أمها وتسألها لعبة لا تراها ولا تجدها فالألعاب اختفت فجأة من السوق وحل محلها أشياء لا علاقة لها باللعب.
تكرر الطفلة مناشدة أمها شراء اللعبة، ويذهب ظن الأم إلى أن تكرار الطفلة شد الرداء بسبب حاجتها للحمام، ربما لديها حق بعد مشوار طويل داخل السوق وتنقل ما بين الحوانيت.
تنحني الأم لتسمع الطفلة فتقول الطفلة:
اشتري لي لعبة.
ليس الآن. هل تريدين الحمام؟
لا، أريد لعبة.
لديك ألعاب كثيرة في البيت.
ولماذا تشترين صحونا وحللاً جديدة وفي البيت لدينا الكثير؟
باسطة كفاً منفرجة الأصابع في وجه الطفلة تجيب الأم:
وي.. وي.. شاطرة في المحاسبة، طالعة لأبوك ما شاء الله عليك!! سيدي رمضان، سيدي رمضان جاي في الطريق ولازم نستعد له.
تعتقد الطفلة أن رمضان الذي تكتظ بسببه الأسواق ضيفًا وبالتحديد رجلًا سميا لجدها رمضان.
لماذا كلما زارنا جدي يجب أن نشتري لوازم جديدة للطبخ ونملأ المستودع بالمؤن وكأن المجاعة ستأتي معه والأسواق ستختفي فجأة؟
تقول الأم وقد تركت حانوتا سعرت لديه بعض البضائع ودخلت لآخر ملاصق له.
وي..وي..سيدي رمضان شهر الصوم وليس جدك.
ثم تغمزها بعين وتدفعها أمامها بيدها الممتلئة بالأكياس.
هيا. ساعديني في حمل هذه الأشياء، ما زال أمامنا الكثير لنفعله.
تتذمر الطفلة وتتبرم لكنها تذعن إذ تتذكر أن الجنة تحت قدمي أمها اللتين تجوبان السوق منذ وقت مبكر.
رائحة البهارات الجديدة نفاذة تثير العطس، وألوانها رائعة زاهية، وتنوعها في السلال المفتوحة أمام الحوانيت يحيلها إلى حقل من الألوان والروائح.
من بعيد تبدو مداخل حوانيت التوابل والبقول في السوق الشعبي كالأكلمة التي سيبسط واحد منها في مضافة البيت احتفاءً برمضان.
حلول شهر الصوم يقلب كل شيء في البيوت، يخفي ملامحها العادية ويظهر ملامح أخرى مرتبطة به.
تعود النسوة من الأسواق مكتظات بالمؤن والتوابل ومعدات الطبخ الجديدة، يتبادلن الأحاديث عن مشترياتهن للشهر الفضيل، ووصفات إعداد الأطباق الشهية عند مداخل البيوت وفي أي مكان يلتقين به.
يتحول البيت إلى قرية نمل، ينظف فيه كل شيء حتى ما تم تنظيفه من وقت قريب، تطرح أكسيه وسجد لا تخرج إلا في المناسبات وأخرى تفرش للمرة الأولى، يجهز مكان تناول طعام الفطور والسحور بعناية مع مراعاة تجاه جهاز التلفزيون، ويتخذ كل فرد في العائلة موقعه الاستراتيجي المناسب لالتهام الطعام ومشاهدة التلفزيون معاً. وكما يفتتح المرء إفطاره بالتمر والحليب لابد أن تبدأ سلسلة مشاهداته المسائية في شهر الصوم بالكوميديا المحلية الساخرة وإلا فطاولة رمضان الزاخرة ينقصها شيء والشعب يريد إسقاط الشيء!
يزود المطبخ بجهاز تلفزيون صغير يعمل على الدوام حتى والمطبخ يبدو فارغاً، وتختفي العديد من المشاحنات اليومية وتعلن الهدنة مع الذكور بسبب نومهم الممتد من الفجر لوقت الفطور، وتهدأ وتيرة الحياة العامة أو توضع في المجمدة، فجميع الإجراءات تحال إلى ما بعد رمضان، يصبح ما بعد العيد توقيتاً عالمياً منافساً لتوقيت جرينتش.
هكذا يصبر الجميع على الجميع، ويكثر النوم وتكثر الصلاة ويكثر الطعام، و يصاب المرء بتخمة المسلسلات والزيارات.
ُيكب جراب الحكايا القديمة والجديدة في جلسات المساء، ويزداد عدد الضيوف حتى الذين ما عاد مناسباً وصفهم بالضيوف.
تكثر الأدعية والصلوات، ويتابع الجميع صلاة العشاء والتراويح من رحاب مكة المكرمة فيرتبط صوت إمام الحرم الشريف برمضان، ويربطنا بمكة رمضان تلو آخر، حتى إذا جرى تغييره بمرض أو كبر في السن، قالت الجدات والآباء
لقد اعتدنا صوته في رمضان، ليتهم ما غيروه.
وتصبح قضية تغيير صوت الإمام محورًا للأحاديث بعض الوقت قبل أن يطويها الكلام.
بداية شهر رمضان تنفجر في الناس قنبلة شراء لوازم الطبخ والطعام وأشياءٌ أخرى لا علاقة لها بالصيام من باب انتهاز روح التسامح مع التسوق المفتوح.
وفي الجزء الأخير من الشهر الفضيل تنتقل دورة الشراء إلى محلات بيع الألبسة والهدايا والحلويات التي ينبغي استقبال عيد الفطر المبارك بها.
تزدان طاولة صدر البيت بالحلويات وفي الغالب تكون من الأصناف التقليدية، هناك حلويات وأطعمة لا يخرجها من مخبئها إلا رمضان وعيد الفطر، ثم تعود لبياتها الموسمي من جديد.
الرجال ينتقلون صغارًا وكبارًا إلى ارتداء الثياب التقليدية، ارتبط شهر رمضان كثيرًا بالصيف وبالحر، لذا من المناسب ارتداء الجلابية فهي أنسب للصلاة والحركة ومرور الهواء.
النساء يقضين معظم أوقاتهن في الطبخ وكأن هناك مجاعة قادمة في الطريق، حتى زوجات وأمهات وأخوات من يتكلمون لنا في الراديو والتلفزيون عن عدم الإسراف والتبذير وترشيد الاستهلاك، يكثرن من إعداد أصناف مختلفة من الطعام إرضاءً لشهوة الصائمين، وليسقط ترشيد الاستهلاك من الطابق العاشر لمبنى الإذاعة والتلفزيون.
واقعياً يتضاعف الاستهلاك للطعام والمواد الغذائية والسهر والنوم ومتابعة مواد الترفيه في رمضان.
التناقض من شعائر حياتنا ومن طبيعتنا البشرية، لا بأس، يقال تخفيفاً للنمط
إنه شهر وسيمضي، شهر الرحمة والمغفرة والسخاء ينبغي معاملته بسخاء.
وماذا سنفعل بالحلل والصحون الجديدة بعد نهاية رمضان يا أمي؟
تسأل الطفلة
تجيب الأم: سنستعملها، سنطبخ ونأكل فيها.
والقديمة هل نرميها؟
كمن مس عصباً لسن موجوعة، تكشر الأم و تمسك خدها بكفها.
رمضان يأتي ويأتي رزقه معه، رمضان كريم.
هكذا لا يجب أن تخضع الأشياء للصرامة وللمنطق طوال الوقت لابد من أن نسرف أحياناً، نسرف بحب والإسراف في الحب لا يعلو عليه احتجاج إذا ما فكر المرء في أنه قد لا يبلغ رمضان القادم.
إذن ليصم رمضان الحالي وكأنه لن يعيش أبداً.
تقول الأم للطفلة التي تساعدها في جلي الصحون.
العام المقبل سوف تصومين.
ما زلت صغيرة، سأكون في الصف الخامس ابتدائي.
وإن يك يجب أن تتدربي على الصوم باكراً
وهل سيصوم بقية أخوتي؟
الذكور لا. لكن البنات يجب أن يصمن باكراً.
تستجيب الطفلة لأوامر أمها وتبدأ الصيام عند الصف الخامس ابتدائي، الأطفال في المدرسة يسألون بعضهم هل أنت صائم، هل أنت صائم؟
جميعهم يكذب. جرس الاستراحة يفند حكاياتهم المختلقة عن الصيام، شطائرهم تتألف مما تم طهيه في بيوتهم مساء الأمس.
الطفلة لا تحمل معها شطيرة؛ لأنها بالفعل صائمة لكنها لا تتوانى عن تلطيف الحر برشف جرعات من الماء البارد، من دون إخبار أمها.
ولن تعلم أمها حتى بعد أن رشدت الطفلة وأضحت في عمر الصيام بأنها كانت ترشف ماء الوضوء كي ترد عنها الظمأ.
سامحيها يا أمها تجاوزات رمضان المنصرم يجبها رمضان الذي يلي.
أما بشأن القائمة الساخرة التي أعدتها عما يتضمنه مطبخك الأثير من أوان وصحون ومستلزمات أكل والتي عنونتها بـ «متجر أمي»
وتكلمت عنها في الإذاعة المدرسية، فالأمر متروك لتسامحك ولله من قبل ومن بعد.
صحيفة عمان | 2 أبريل 2023م.