فازع دراوشة| فلسطين
اليوم الرابع والعشرون من شباط تبدأ الحرب في أوكرانيا سنتها الثانية، وهي حرب عبثية بكل ما في الكلمة من معنى.
وهي حرب غريبة في كثير من تفاصيلها
وهي حرب مجنونة
وهي حرب كان بالإمكان تجنبها لو كان القائمون عليها مباشرة أو غير مباشرة من أولي الألباب الكبيرة
* حرب عبثية: لأنها حرب دون افق ودون غاية واندلعت دون سبب مقنع، خلا محاولات اقناع الذات بمبررات لا ترقى لمرتبة الإقناع لكل انسان موضوعي. ولنتأمل أعداد من قتلوا في هذه الحرب المجنونة، وأعداد من شُرِّدوا، وأعداد من توقفت حياتهم ومنهم الطلبة العرب ومنهم الفلسطينيون الذين لم يجدوا مكانا يدرسون فيه إلا جامعات أوكرانيا لأسباب عديدة منها الفساد والتخلف الذي ” تنعم ” به الشعوب العربية بسبب حكامها غير الراشدين. ولنتأمل أيضا الدمار الذي حاق بالبلد ” المستضيف ” لهذه الحرب.
* وهي حرب غريبة كونها تغض الطرف عن استمرار تدفق الحبوب الأوكرانية التي تملأ المخازن، تحت ذريعة اطعام الجياع من مستوردي القمح الأُوكراني ومن هؤلاء الجياع الكسالى أبناء الشعوب العربية وفي مقدمتهم أبناء السودان وأبناء مصر وأبناء العراق وأبناء الأردن وغيرهم ممن يعتمدون على استيراد القمح الأُوكراني. والمعروف في الحروب أن لا استثناءات إلا تلك الواردة في التعاليم الإسلامية (وحديثي كمسلم) من قبيل تلك التي كان الخلفاء يوصون بها الجيوش الفاتحة والناشرة للإسلام… (لا تقتلوا شيخا ولا امرأة ولا تقطعوا شجرة…الخ).
وثمة أمثلة أخرى يضيق المقام لسردها.
* وهي حرب مجنونة، وتتلخص في ” عباطة ” بوتين، وعنجهيته وحساباته المغلوطة، حيث أوهم الجميع مع مصفقيه أنه سيسحق أوكرانيا وجيشها خلال ثلاثة أيام كحد أقصى. واليوم يكتمل عام على حرب بوتين ويُشرع بالعام الثاني دون تحقيقه هدفه.
والأمثلة على سوء الحسابات البوتينية تترى، وسأكتفي بثلاثة أمثلة:
الأول: لم يتوقع صمود الجيش والشعب الأوكراني، واستبسالهم بالدفاع عن موطنهم. توقع تفكك الجيش، وتوقع انهزام الروح المعنوية للشعب، ولم يحصل أيٌّ من هذا.
وهذا، يجعلني أتذكر هزيمة الجيوش العربية (خلا بطولات فردية هنا وهناك) في فضيحة وكارثة ونكسة 1967، حين صار عناصرها بل وقادتها يفتشون على طرق الهريبة والاستسلام، وكثير منهم ألقى ببزته العسكرية ولبس لباسا مدنيا أُعطيه من هذه البلدة أو تلك، والحديث بذلك وعن ذلك يطول.
الثاني: لم يتوقع تماسك الشعب الأوكراني وصبره على ما يواجه من قصف وضنك في ظروف مُناخية قاسية جدا، ولم نسمع عن موجات نزوح جماعي غير مبرر كما جرى في حالات مشابهة لمن هاجر طائعا دون وجود أدنى خطر على حياته. وينبغي أن يكون واضحا تمام الوضوح أنى لا أعنى ولو بنسبة واحد بالمليون من اضطر للهجرة والهرب، ولكن اللوم على من كان بوسعه البقاء مثل الذين بقوا.
الثالث: لم يتوقع هذا الدعم الهائل جدا وغير المسبوق من دول حلف النيتو خاصة ودول أوروبية عامة وبعض الدول الأخرى، لأُوكرانيا جيشا وشعبا وحاكما لا أكن له أدنى احترام كونه معادياً لقضيتي ولشعبي ولامتي، وكونه مناصرا لعدوي منذ ما قبل غزو بلده.
هذا الدعم الهائل الذي حظي به بنو الأُكران بالسلاح والمال والسياسة والغذاء وربما بالرجال يتمنى المرء لو حصل عليه بنو فلسطين من إخوانهم العرب والمسلمين، ولكنه كان دائما دعما قاصرا ونزويا ومشروطا في غالب الأحيان مع استثناءات قليلة جدا. والنتيجة كما تعلمون.
قال المتنبي:
جود الرجال من الأيدي وَجودُهمُ… من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ
ولا أبرئ أحدا بما يتعلق بهشاشة الدعم العربي والإسلامي لفلسطين ولبنيها، ولا أبرئ أيضا الفلسطينيين فلهم دور في ذلك لا يمكن تجاهله. (وهذه الأمور موضوع حديث آخر). وانا انسان يقيس الأمور بنتائجها بالمقام الأول وبالتالي لا أستطيع غض الطرف عن بقاء فلسطين محتلة بشكل مباشر منذ ثلاثة أرباع القرن، ومحتلة بشكل غير مباشر منذ مئة وست سنين تقريبا.
* وهي حرب كان ممكنا تجنبها لو كان القائمون عليها بصورة مباشرة أو غير ذلك من أولي الألباب. ذاك أن ما أشاعه بوتين من احتمال وربما أكثر من احتمال كالسعي مثلا من قبل أوكرانيا ممثلة برئيسها المتصهين الانضمام لحلف النيتو وبالتالي تهديد الامن الوطني الروسي، يمكن مواجهته ومنعه بلقاءات واشتراطات وترقب ومن ثم، إن كان هناك أيما بارقة خطرٍ، فليتم اللجوء للحرب، فالحروب تكون الخيار الأخير عند من يعقلون.
واما الطرف الآخر فلا تبرئة له حيث أعطى الانطباع أنه قاب قوسين أو أدنى من التأمرك والانضمام لحلف النيتو المعادي للروس. وكان بالإمكان اللجوء للحوار أيضا والتفاهم.
وقد يقول قائل: وما علينا نحن المسلمين والعرب والفلسطينيين؟ فليكن فخّارا يكسر بعضه بعضا.
وردي أنه وفي ظل كون العالم صار أصغر من قرية صغيرة جدا، لا يستطيع المرء من الوقوف موقف المتفرج.
واعلم أن الطرفين ليسا معنا لا الأوكران التي صدّرت لفلسطيننا ما صدّرت من العدو منذ قيام الكيان وحتى لحظة كتابة هذا السطور، ولا الروس الذين لا يقدمون لنا كفلسطينيين وكعرب وكمسلمين إلا الكلام الفاضي. وما التواطؤ الروسي الإسرائيلي بسورية (جوهرة بلاد الشام) عنا ببعيد. ورأينا كيف سارعت خارجية روسية بإدانة هجوم العدو الأخير على فيحائنا (خلافا للعادة)، وذلك ردا على تقدم ضئيل بعلاقات أوكرانيا بعدونا تمثل بزيارة وزير خارجية الأخير لكييف.
وكان للحرب نتائج سلبية وصلنا تأثيرها كارتفاع أسعار جميع السلع والحجة جاهزة، وكذلك ما طرأ على كثير من اقتصادات الكيانات والدويلات جميعها من ازدياد البطالة والغلاء واتساع جيوب الفقر……. الخ.
وتبقى المسألة الكبرى في عبثية وجنون هذه الحرب الكارثية، وتكمن ان ميدان هذه الحرب و” فعاليّاتها” يتم بمرابعَ تعج بها المفاعلات والمحطات النووية التي تقادم عمرُ بعضها وربما تآكلت، فمن غيرُ الله تعالى يحمي البشرية من جنون ما، قد يضطّر له يائس في لحظة ما قبل النهاية؟ فهل نقول عندها: فخّار يُكَسّرُ بعضه بعضا “؟
ولعلكم تذكرون انفجار مفاعل تشيرنوبيل بخطأ بشري بعد منتصف الليل يوم السبت 26 نيسان 1986 (أي يكتمل عمر الحدث سبعا وثلاثين سنة بعد شهرين). ولا داعي لسرد ما أحدث.
لا بد من قيام أهل العقل من زعماء العالم غير الضالعين بهذه الحرب إن وجدوا بدورهم والضغط لوقفها لدرء أخطارها وكوارثها المرتقبة.