شكري محمد السنكي
وقفت أمام صورتين منشورتين في صفحات التواصل الاجتماعي يظهر فيهما الراحلان: فريد أشرف السجين السّياسي السّابق وعضو حزب البعث الِلّيبي، ومنصور رشيد الكيخيّا السّياسي البارز والدبلوماسي المخضرم والبعثي السّابق والمُناضل الحقوقي الذي دفع حياته ثمناً لمواقفه الوطنيّة ورفضه التنازل عن الثوابت، وتذكرت حديثاَ دار في صيف 1988م بين الكيخيّا وأحد الأصدقاء (1) في مدينة كولومبيا بولايّة ميزوري في الولايّات المتَّحدة الأمريكيّة.
كنت مقيماً في العام 1988م في مدينة كولومبيا، وكان منصور الكيخيّا يتردد حينها باستمرار على المدينة، ومنذ منتصف الثمانينات وإِلى أن أقام في المدينة إقامة شبه دائمة في العَام 1989م، وظل كذلك حتَّى يوم اختطافه في القاهرة في العاشر من ديسمبر 1993م.
انزعج منصور من حديث ذلك الصديق عن صديقه ورفيق دربه فريد أشرف، حيث انتقد هذا الصديق ما جاء على لسان فريد أشرف في اللقاء التلفزيوني الذي أجراه معه تلفزيون القذّافي بعد الإفراج عنه وعن مجموعة من رفاقه سجناء الرَّأي يوم 3 مارس 1988م فيما عُرف شعبياً بـ«إفراجات أصبح الصبح»!
أفرج معمّر القذّافي على عدد كبير من السجناء السياسيين يوم 3 مارس 1988م، ولم يفرج عن البعض الآخر وهم أعضاء حزب التَّحرير، وأعضاء الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبَيا، وربّما بعض المستقلين، وكان هدفه من ذلك تحقيق بعض الأهداف السياسيّة لنظامه وتحسين صورته في الخارج وتفكيك المعارضة الّتي كانت تشكل ضغطاً عليه وتنشط ضدَّه وقتئذ، ووقتما كان نظامه يوصم بالإرهاب والاستبداد.
وبعد الإفراج عن أولئك السجناء، اجبر القذّافي عدداً من المفرج عنهم للحديث إِلى وسائل الإعلام المحلية، ليقدموا اعتذارهم عمّا بدر منهم تجاهه وتجاه نظامه الجماهيري، ويعترفوا بخطئهم، ثم يعلنوا ندمهم وتوبتهم وقرارهم ببدء حياة جديدة بعد خروجهم من السجن!! وفرض عليهم أيضاً تقديم الشكر له على قرار العفو والصفح والتجاوز عن أخطائهم أي معارضتهم له، والإعلان عن تأييدهم الكامل لشخصه ونظام حكمه!! ومن سوء حظ فريد أشرف أنه كان ضمن المجموعة الّتي وقع عليها الاختيار لتتحدث إِلى وسائل الإعلام، وقد تحدث إلى «قناة الجماهيرية»، وقدم اعتذاره مجبراً، وشكر القذّافي مكرهاً على قرار العفو عنه!
رفض صديقي ما صدر عن فريد أشرف واعتبره نكوصاً وتراجعاً لا يليق بشخص مناضل وصاحب فكر عانى من الظلم ما عانى. رد منصور الكيخيّا على صديقي، قائلاً: كن منصفاً يا أخي، واعطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، والله عز وجل ينهانا أن ننسى الفضل بيننا، ثم بالله عليك هل تعتقد أن شخصاً مثل فريد أشرف رفض الاستبداد والظلم والتنكيل بأبناء شعبه واختار أن يكون ًمعارضاً بمحض إدارته، أن يتراجع عن موقفه من الظلم والظلم مازال قائماً، ويعلن تأييده للحاكم المستبد بعد أن قضى أحلى سنوات عمره في سجون الطاغية وتعرض لشتى أصناف القهر والتعذيب ؟. وهل تعتقد أن شخصاً مثله سُجن هو وابنه لسنوات طويلة ظلماً وبهتاناً، وتعرضت أسرته لتشديد الخناق والمضايقات والتحقيقات المستمرة، وذاقت مرارات انشغال البال وقسوة العذابات النفسية والمعنوية بسبب غياب الابن ورب الأسرة، أن يعتذر لجلاديه، ويعلن تأييده لمن ظلمه ويثني على مواقفه وأفعاله، دون أن يتعرض إِلى إكراه أو تهديد أو إجبار؟
فريد أشرف شخص مهذب وإنسان عاقل ورجل مثقف، عارض نظام القذّافي بمحض إدارته واختياره ولم يدفعه أحد إِلى ذلك، ومَا قاله لا ينتقص شيئاً من تاريخه النضالي أو يدينه في شيء، فالتلفظ بما يخالف المبدأً الأخلاقي أو الضمير الوطني، أو حتّى التلفظ بالكفر حمايةً للنفس من الضرر أو الأذى الذي لا يُحتمل، تقر به كافة الثقافات والأديان، وهو ما ثبت في القرآن الكريم، وروي في السنَّة النبوية الشريفة ما يؤيده. وأنا متأكد أن مَا نطق به رفيقي هو مجرَّد كلمات خرجت من لسانه لينجو من عدوّه، وقلبه كان رافضاً للقذّافي ونظامه الفاشي المستبد، والله سبحانه تعالى يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.
عرفت الرجل عن قرب منذ أن كنّا أطفالاً، ودرسنا المرحلة الثانوية سوياً في ديار الغربة بـ«مدرسة حلوان» الثانوية في مصر، ثم المرحلة الجامعية بالقاهرة، ثم في حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كنت من بين مؤسسيه وكان فريد أشرف من أوائل المنضمين إليه، وأبرز نشطائه. عرفته عروبياً ومخلصاً في قوميته، ومثقفاً محباً للعلم والمعرفة، ودمث الخلق ورجلاً متواضعاً إِلى أبعد حد. وسمعت أنه تعرض في السجن إِلى الاحتجاز في زنزانة انفراديّة ضيّقة لفترات طويلة، وتعرض للتعذيب القاسي جدَّاً وسوء المعاملة، وصدر عليه حكم جائر بالإعدام شنقاً لم ينفذ، وقد تعرض بعض رفاقه المقربين إلى نفس التعذيب الذي تعرض له ومنهم مَنْ قضى نحبه تحت سيّاط الجلاد، وهم: عامر الطاهر الدغيّس، الحسين أحمد الصغير، محمّد فرج حمّي.
أنا لا أعرف تفاصيل ما حدث له، لانقطاع التواصل بيننا بحكم الظروف القاهرة وواقع بلادنا التي يعيش أهلها في ضيق وخوف ورُعب ورقابة شديدة مفروضة عليهم من قبل الأجهزة المخابراتية الأمنية، ولكن الرجل عانى كثيراً ودفع ثمناً كبيراً وباهظاً. ويبدو أن القذّافي ما كان يشفي غليله بعد أن أخرجه من السجن، إلاّ اغتياله معنوياً فيما يعرف مخابراتياً بـ«اغتيال الشخصية»، ولهذا أجبره على شكر نظامه والثناء عليه، ليصل إِلى النتيجة التي ترددها أنت الآن.
أنت حققت للقذّافي ما أراد !، وظلمت رجلاً كان من المفترض أن تكون مفتخراً به وأوّل المدافعين عنه بحكم أنك تعيش مرارة المنفى والإبعاد، ولأن مَنْ ظلمك هو نفس الظالم الذي سجنه لأكثر من عشر سنوات، الظالم الساعي الآن لتشويهه واغتيال شخصيته، كما يفعل معك ومع سائر المعارضين لشخصه ونظامه.
الطغاة في عالمنا الثالث، كثيراً ما يكسبون معاركهم، بفضل النخبة التي تواجههم !، لأنها ليست في مستوى التحدي، وهي نخبة مأزومة بطبيعتها، نخبة غارقة في معارك جانبية وصراعاتها الداخلية. نخبة لا يسعفها عقلها أو وعيها لتحليل الواقع على نحو يُسهم في تشديد الخناق على العدو، وتأسيس ما يمكن الاعتماد عليه لإخراج المجتمع من واقعه المتأزم ليشدُ رحاله نحو التعافي والنهوض والاستقرار. والأدهى والأمر، وقوع هذه النخبة في الغالب الأعم فريسة سهلة في الفخاخ التي ينصبها العدو لها، وعدم قدرتها الاستفادة من أخطائها، بمعنى انها لا تتعلم من تجاربها والدروس السابقة.
كنت أود ألا اسمع منك ما قلت، ولكن هذا هو واقع حالنا البائس، وبؤسنا قد يطول!
هكذا كانت الواقــعة، وكذا تحدث منصـور.. وإليكم سيرة فريد أشرف وسجل حياتــه.
فريد أشرف سجل وسيرة
فريد أشرف، هو ابن المربي الرَّاحل حسين علي أشرف المعروف باسم «حسين أفندي»، من الرَّواد الأوائل من رجال التعليم في برقة وأبرز المعلمين في مدينة بنغازي وضواحيها في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن المنصرم.
الاسم: فريد حسين أشرف الفرجاني، المعروف باسم «فريد أشرف»، وقد ولد في بنغازي في العام 1932م، وكانت أسرته من سكّان «شارع البعجة» الشهير وسط مدينة بنغازي، وتُوفي في العام 1995م بعد أن عانى ما عانى في عهد القذافي من ظلم وقسوة وإبعاد.
درس في بنغازي المرحلة الأولى من دراسته، ودرس المرحلة الثانويّة والجامعية بمصر وليبيا. أنهى دراسته الابتدائيّة بتفوق، وتحصل على شهادة هذه المرحلة العام 1946م. ونظراً لتفوقه فِي الشهادة الابتدائيّة، رُشح ضمن بعثة المتفوقين لاستكمال الدّراسة الثّانويّة بحلوان بالقاهرة. ويُذكر أن مرحلة الدراسة مَا قبل الجامعة كانت مقسمة وقتئذ إِلى مرحلتين: الابتدائيّة والثانويّة وليس كحالها اليوم إِلى ثلاث مراحل: الابتدائيّة والإعداديّة والثانويّة. وكان عدد المُرشحين للبعثة ستة عشر طالباً، سبعة مِن مدينة بنْغازي وتسعة مِن مدينة درنة.
وطلبة بنْغازي هم: فريد حسين أشرف، منصور رشيد الكيخيّا، عثمان الكاديكي، عبدالحميد الرعيض، عُمر بِن عامر، الزبير يوسف لنقي، عبدالله الزيداني. أمّا طلبة درنة فهم: رمضان رقص، إبريك المحجوب، يُوسف الكواش، فتحي بِن سعود، حمدي الجربي، عاشور صويدق، حسن المحجوب، عبدالرَّحيم النعاس، عبدالمجيد عبدالهادي. والبعثة كانت تحت رعاية «إدارة المعارف» فِي برقة إبّان حكم الإدارة الإنجليزيّة، وكان على رأس الإدارة: ميجر فورمان «إنجليزي»، وعضوية: مصطفي عبدالله بِن عامر (1908م – 1990م)، عَلي صفي الدّين السّنُوسي (1920 – 1994م)، محمّد مصطفى السعداوية (1915م – 1982م)، عوض الشيباني، السّنُوسي عزوز.
درس الثانويّة بـ«مدرسة حلوان الثانويّة الدّاخليّة» الكائنة بإحدى ضواحي جنوب القاهرة الرَّاقيّة القديمة على شاطئ نهر النيل، التابعة للقاهرة، وكان إلى جانبه الطلبة سالف ذكرهم. ودرس المرحلة الجامعية في القاهرة بعد إنهاء مرحلة دراسته الثانوية، وذلك قبل تأسيس الجامعة الِلّيبيّة التي تأسست في مدينة بنغازي في 15 ديسمبر 1955م، وكان مقرها أولاً بالقصر الملكي «قصر المنار» الذي أهداه الملك إدريس السّنُوسي ليكون مقراً للجامعة، وكانت أولى كلياتها «كلية الآداب والتربية» التي ضمّت ساعة افتتاحها «31» طالباً.
اهتم فريد أشرف بالشأن العام وتأثر بالمد القومي، وكانت الجامعة وقت دخوله لها في مصر ينشط فيها التيار القومي وحزب البعث العربي الاشتراكي. أُعجب بحزب البعث العربي الاشتراكي واستهواه العمل الحزبي، ويبدو أن نشاطه الحزبي أثر سلباً على دراسته في مصر وأدخل إقامته بها في دوائر التعقيد والرقابة الأمنية، فسافر إِلى بنغازي واشتغل في «مصرف ليبَيا المركزي»، وواصل دراسته الجامعية منتسباً في فترة لاحقة، وتحصل على شهادة «ليسانس قانون» من الجامعة الِلّيبيّة في بنغازي.
كانت القاهرة إبّان دراسة فريد أشرف بها مركزاً لنشاط بعض الشخصيّات البعثية التي كانت تعمل على البناء التنظيمي لفروع «حزب البعث العربي الاشتراكي» في منطقة المغرب العربي وشمال أفريقيا، والطلبة الِلّيبيّون كانوا من بين المستهدفين حينها من قبل تلك الشخصيّات.
انضم فريد أشرف إلى حزب البعث مبكراً، وكان من أوائل الطلبة الِلّيبيّين الدارسين في الجامعات المصرية، الذين استهواهم العمل السّياسي والنشاط الحزبي، فالتحق هو وبعض من زملائه لحزب البعث وشكّلوا نواته الأولى في ليبَيا، ثم القيادة القطرية للحزب في المملكة الِلّيبيّة المتَّحدة.
كان عنصراً نشطاً في حزب البعث، ومن أبرز قياداته، وقد جاء بخصوص تاريخ حزب البعث في ليبَيا في الموسوعة الحرة «ويكيبيديا» تحت عنوان: «محمّد الصّادِق هلال (2)»، ما يلي: «انضم محمّد الصادق هلال إِلى حزب البعث العربي الاشتراكي في ليَبيا في العام 1958م، وكان يترأسه عامر الطاهر الدغيّس، وتمَّ انضمامه إِلى الحزب عن طريق فوزي البغدادي. وكان وقتها يتردد على متجره بحي الأندلس العديد من قيادات وأعضاء حزب البعث البارزين، ومنهم: بشير أبوعجيلة بن كورة، عمر الأبيض، الطيّب عدالة، المبروك الغنودي، عمران محمّد بورويس، يوسف عقيلة المجبري، محمود عمر بوعبيد، فريد حسين أشرف، رمضان عبدالله علي بوخيط، عبدالحميد يوسف البابور، مصطفى إرحومة سالم النويري، عبدالمطلب عبدالله الشيباني، وكثيرون غيرهم».
عمل فريد أشرف في قطاع البنوك بعد عودته إلى ليبَيا من القاهرة، وكان عضواً مؤسساً لـ«مصرف ليبَيا المركزي» الذي تأسس في العام 1955م تحت اسم «المصرف الوطني الِلّيبيّ» بموجب القانون رقم 30 لسنة 1955م، وحل محل لّجنة النقد الِلّيبيّة الّتي أنشئت في العام 1951م. وشغل منصب أوَّل سكرتير للمصرف أو البنك آنذاك.
وفي أغسطس 1961م، اُعتقل هو ومجموعة من أعضاء حزب البعث الاشتراكي، بلغ عددهم «183» عضواً، بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم الملكي. وكان من بين المعتقلين إِلى جانبه في تلك الحملة: عامر الطاهر الدغيّس، الحسين أحمد الصغير، محمّد فرج حمّي، عامرالبكوش، وحسونة الدغيّس، أحمد هلال.. وغيرهم. وحوكم المعتقلون بأحكام مخففة ومتفاوتة بمعنى الأحكام كانت في مجملها بالحبس مدد قصيرة وغير قاسية، وقد حُكم فريد أشرف بالسجن لمدة سنتين.
وفي صيف 1963م، تحصل فريد أشرف بعد خروجه من السجن، على وظيفة في مركز مهم في شركة نفطية امريكيّة كان لها فرع بليبيا، وكانت تعد من أهم الشركات النفطية في العالم، شركة أكسودنتال «Occidental Corporation».
انجاه الله سبحانه وتعالى من الاعتقال في سنة 1973م وقد طال العديد من رفاقه، من جميع الفئات والأيديولوجيات، الإسلاميين والقوميين والبعثيين واليساريين أو ما عرف وقتئذ بـ«التروتسكيين». ألقى معمر القذافي خطاباً بمدينة زوَارة في 15 أبريل 1973م، تضمّن خمس نقاط، كان أولها إلغاء جميع القوانين المعمول بها، وثانيها تطهير ليبيا من المرضى، أي من الحزبيين وأصحاب الرَّأي والانتماءات الفكرية المختلفة. شنّت أجهزة أمن القذّافي حملة اعتقالات واسعة عقب الخطاب المذكور باسم «الثورة الثقافية»، وطالت الحملة العديد من الحزبيين القدماء والمثقفين والصحفيين والمهتمين بالشأن العام.
وبعد سنتين من نجاة فريد أشرف من حملة اعتقالات الثورة الثقافية في أبريل 1973م، تمَّ اعتقاله في سنة 1975م مع مجموعة من رفاقه العاملين في مجال النفط، وظل في السجن لمدة سنتين. وقد عُرفت هذه المجموعة بـ«مجموعة الأكسودنتال» نسبة إِلى شركة أكسودنتال النفطية، وكان من بين الذين اعتقلوا معه: فرج أبوالخيرات، علي اللافي، عبدالحكيم بورشان، فوزي البشتي، علي حمربطان.
اعتقل مجدَّداً بعد أقل من ثلاث سنوات من الإفراج عنه، حيث اُعتقل في مطلع سنة 1980م، ولم يعتقل بمفرده، إنّما اُعتقل مع مجموعة كبيرة من النشطاء وأصحاب الرَّأي والحزبيين القدماء، وقد استشهد بعضهم داخل المعتقل: عامر الطاهر الدغيّس «استشهد تحت التعذيب في 27 فبراير 1980م»، الحسين أحمد الصغير «استشهد تحت التعذيب في مارس 1980م»، محمّد فرج حمّي «استشهد تحت التعذيب في أبريل 1980م».
حكمت المحكمة الثوريّة الدائمة، المُشكلة من أعضاء اللّجان الثوريّة الذين لا صلة لهم بالقانون والمحاكم والسلك القضائي، أحكاماً قاسية على فريد أشرف ورفاقه، فهؤلاء كانوا هم المحققين والقضاة في الوقت نفسه، فقد أصدر هؤلاء أحكاماُ على هذه المجموعة التي بلغ عددها خمسة وعشرين شخصاً، تفاوتت من إخلاء السبيل إلى السجن مدى الحياة والإعدام، وكان نصيب فريد حسين أشرف الحكم بالإعدام شنقاً، ولكن الأقدار شاءت ألا ينفذ فيه هذا الحكم الجائر، وقد نُفذ في غيره.
أُفرج عنه في فيلم الإفراجات الّتي عُرفت شعبياً باسم «أصبح الصبح» نسبة إلى قصيدة الرَّاحل محمّد الفيتوري، والتي هتف معمّر القذّافي بها في يوم 3 مارس من سنة 1988م حينما جاء يقود جراراً ضخماً «بلدوزر» إِلى سجن «أبوسليم» سَيِّئ الصِّيت، فهدم مدخله في مشهد هو أقرب إِلى مشاهد أفلام الأكشن الهوليودية!
قام القذّافي في ذلك اليوم بهدم مدخل سجن أبوسليم، بشكل استعراضي مخادع، وكأنه بطل فيلم كتب السيناريو واخرجه لتحقيق غاية في نفسه، حيث جاء إِلى السجن يقود البلدوزر، هاتفاً: «أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقِ». نقول فيلم لأن الواقع فضح ادعاءاته الكاذبة بعد فترة وجيزة من إفراجات مارس 1988م، حيث قادت أجهزة نظامه الأمنية حملات اعتقال أخرى بعد فترة من تلك الإفراجات، على أعداد كبيرة من أصحاب الرّأي «والمحسوبين على التيار الإسْلامي خصوصاً»، لتمتلئ السجون مجدداً بالسجناء السياسيين، وتنكشف حقيقة تلك الإفراجات وتتضح. كذلك، يشهد سجن أبوسليم، بعد سنوات قليلة من إفراجات أصبح الصبح، وفي 29 يونيو 1996م تحديداً، مجزرة بشرية غير مسبوقة في تاريخ ليبَيا المعاصر، ارتكبتها قوَّات الأمن ضدَّ سجناء عُزّل، عُرفت باسم «مجزرة سجن أبوسليم»، وراح ضحيتها – وفي ساعات معدودة – نحو «1269» معتقلاً سياسياً وسجين رأي.
وفي يوم الإفراجات، وفي الساحة الّتي أمام سجن أبوسليم، التقى فريد حسين أشرف بابنه «أشرف» الّذِي كان مسجوناُ معه !، ولكنه لم يسمع باعتقاله وبوجوده داخل السجن، ولم يلتقه في سنوات الاعتقال.
توفي السجين السّياسي السابق فريد حسين أشرف في العام 1995م في مدينة طرابلس طبيعياً إثر تعرضه لأزمة صحية، عن عمر ناهز الثلاثة والستين عاماً. وكان قد تعرض للسجن مرتين في عهد العقيد معمّر القذّافي وقضى في زنازين الاعتقال أكثر من عشر سنوات بتهمة الانتماء الحزبي والعمل على الإطاحة بالنظام الحاكم، وحكمت عليه محكمة اللّجان الثورية بالإعدام شنقاً هو واثنين من رفاقه في حزب البعث، وهما: مصطفى رحومة سالم النويري ومحمّد الصّادِق هلال. نُفذ حكم الإعدام شنقاً وعلناً في مصطفى رحومة سالم النويري في 22 أبريل 1984م، أما محمّد الصّادِق هلال فبقي في السجن المركزي بطرابلس حتَّى 22 يناير 1984م، حيث نُقل إِلى سجن «أبوسليم» سَيِّئ السمعة، وغابت اخباره عن أهله منذئذ، ويقال إنه قضى نحبه في مجزرة سجن أبوسليم في صيف 1996م.
الرحلة إِلى «ثورة السابع عشر من فبراير» في العام 2011م، كانت طويلة جدَّاً، وكان الطريق إليها شاقاً وقاسياَ.. وكان ثمن التحرر من الاستبداد ونيل الحرية غالياً دماً ودموعاً وآهاتٍ.. وفريد أشرف كان ضحية من ضحايا الاستبداد في عهد لم تر ليبَيا منه إلاّ زهق الأرواح وتدمير البنيان وعيشة البؤس والشّقاء.
رحم الله فريد أشرف وغفر له وجعل الجنّة داره ومأواه.. ورحم المولى عز وجل جميع شهداء الوطن الذين قاوموا الاستعمار والاستبداد وضحوا بأرواحهم في سبيل تحرير وطننا الغالي، ولأجل رفعته وأمنه واستقراره.
(1) كلام الكيخيّا: ما جاء على لسان منصور الكيخيّا الوارد أعلى الصفحة، ليس منقولاً بالنص إنّما بفحوى القول ومحتواه، وقد نقلناه من باب التوثيق، ونظراً لما رأيناه في الواقعة من حكمة وعبرة ودرس.
(2) محمّد الصّادِق هلال: عضو حزب البعث العربي الاشتراكي / فرع ليبَيا، وأحد قيادات التيار القومي العربي في ليبَيا والشمال الأفريقي، وأحد مؤسسي ورؤساء نادي الترسانة الرياضي والثقافي الاجتماعي بطرابلس، والسجين السّياسي السابق الذي اعتقل في العاشر من مارس 1980م، وحكمت عليه محكمة اللّجان الثورية بالإعدام شنقاً هو واثنين من رفاقه في حزب البعث، وهما: الشهيد مصطفى رحومة سالم النويري «نُفذ حكم الإعدام فيه شنقاً وعلناً في 22 أبريل 1984م»، وفريد حسين أشرف «لم ينفذ حكم الإعدام فيه وأطلق سراحه في العَام 1988م». ويُذكر أن محمّد الصّادِق هلال بقى في الاعتقال من 1980م حتَّى 22 يناير 1984م بالسجن المركزي في طرابلس «بورتا بينيتو سابقاً»، المعروف باسم «الحصان الأسود»، تاريخ آخر زيارة سُمح بها لأسرته وبعد هذا التاريخ منع معمّر القذّافي أي زيارة له، وقد نُقل بعد ذلك إِلى سجن «أبوسليم» سَيِّئ الصِّيت، ولم تره أسرته منذ ذلك الحين إِلى يومنا هذا، وقيل إنه قضى نحبه في مجزرة سجن ابو سليم في 29 يونيو 1996م.
مصادر ومراجع
• المؤلف: مقالة: «منصُـور الكيخيّا.. تعليمـه والتعليـم فِي زمانـه»، نُشرت في صفحة المؤلف «Shukri El-sunki» بالفيسبوك بتاريخ 1 ديسمبر 2020م.
• الموسوعة الحرة «ويكيبيديا»، التعريف الوارد في الموسوعة تحت عنوان: «محمّد الصّادِق هلال».