قصة

قصة أرض

الهادي أبو حمره

من أعمال التشكيلية الليبية شفاء سالم
من أعمال التشكيلية الليبية شفاء سالم

يتوسط الحي قطعة أرض واسعة، مليئة بالأشجار، تتجاوز الهكتارين، محاطة بسياج يحدد معالمها، ويحميها، تؤتي أكلها كل حين. يقطف المارة ما يتدلى على الشارع من عطائها، ويتسلق أطفال الحي جدرانها؛ لتطال أيديهم ما هو قريب من ثمارها.

 زادت قيمة الأرض بعد أن رصفت طرق الحي من حولها، وتحولت إلى مركز تجاري من مراكز المدينة، وملتقى طرق بين شرق المدينة وغربها. بارتفاع ثمنها، دب الخلاف بين وارثيها، حاولوا التوافق على الاستفادة منها، منهم من يريد الخروج من الشيوع، ومنهم من لا يريد، منهم من يريد نصيبه والرحيل، ومنهم من يرى القسمة ضررا يفقد الأرض قيمتها، اختلفوا في الأنصبة،  تنازعوا بين قسمة الملك وقسمة المنفعة، اختلفوا في الفرز على القيمة، أو على المساحة، فواجهة الأرض ليس لها قيمة وسطها، ولا نهايتها، رفضوا محاولات تسوية الخلاف بينهم، طعنوا في شيخ الحي الذي طرح عليهم القرعة، وفي المحامي الذي نصحهم بالبيع وتقاسم الثمن، كان أكثرهم عنادا من كان لا يعتمد على ريعها، وله مصدر رزق وموطأ قدم بعيدا عنها، هؤلاء هم من رأوا في كل حلٍ يُقدم لهم أسوأ احتمالاته، ومن تفننوا في لي أعناق نصوصه، وفي استنباط ما قالوا أنه سوء نية من بين كلماته، وأنذروا بسطاء العائلة من سوء مآلاته.

 جيران؛ سبق لهم أن عرضوا عليهم شراءها؛ تدخلوا للوقيعة بينهم، وزرعوا بذور الشك فيهم، وضخموا لهم صغائر الأمور، وذكروهم بما حدث بين آبائهم، واشغلوهم به عما بينهم من مصالح، فغلب عليهم الجفاء، وانكسر بينهم الود، ونزعت من قلوبهم الألفة، وغابت عنهم الحكمة، ووقعوا في فخ العناد، ومعه لم يعد بإمكانهم الاجتماع في مكان واحد، وزاد من حدة خلافهم ما ينقله خبراء الوساطة بينهم، فتباعدت بينهم السبل، وتركوا أرضهم مهملة. 

لا حظ الجيران قلة ترددهم عليها، وفتورهم في تتبع المعتدين عليها، فأحدثوا في سياجها فتحات، وحولوها رويدا رويدا إلى مكان للتخلص من النفايات، امتلأت بالحيوانات النافقة، تكاثرت فيها القوارض، وأصبحت مقصدا للقطط والكلاب.   كسر الصبية بابها الحديدي، واستغلوا جانبا منها ملعبا لكرة القدم، تحولت حجرات العمال بها إلى أماكن لتجمع الجانحين من القريبين والبعيدين عنها، مارسوا فيها الرذيلة، وتعاطوا فيها المخدرات. تحولت إلى بؤرة فساد، وأصبحت الشوارع المحيطة بها غير آمنة، ولم يعد أحد يقترب منها ليلا، وأقفل الجيران نوافذ بيتوهم التي تطل عليها، وغير من استطاع منهم واجهة بيته عنها، وسلكوا طرقا لا تفضي إليها.

تمكن المنفذون من نزع ملكيتها للمنفعة العامة، قطعوا منها جزءا لبناء مسجد زين واجهتها الأمامية، ألحقوا به دورا للكتاتيب، وبمرور الزمن حولوا المنفعة العامة إلى منفعة خاصة، واقتسموها فيما بينهم. تستروا بالمسجد، وبنوا فيها فللا راقية تختفي وراء المسجد، وكتبوا على وجهات بعضها (هذا من فضل ربي).

عاد أصحابها للمطالبة بها، أدرك بعضهم ما كان قد اجتمع في عقولهم من جهل وكِبَر، لكن بعد فوات الأوان، علق أخرون خسارتهم على خبث الوسطاء بينهم، وتقاذفوا بينهم الاتهامات. هم الآن على استعداد للقبول بالصلح مع من يقيمون فيها، والرضا بتقاسم أي تعويض على التساوي بينهم، مع أن الأمل في الحصول عليه ضئيل. فمن استوطنها يدرك ضعفهم، وما خلفه النزاع من عداوة بينهم.

27/01/2020م

مقالات ذات علاقة

جان.. في حينا ؟؟

سعد الأريل

عطر الذكرى الفوّاح

محي الدين كانون

هواجس انتظار..!!

عبدالواحد حركات

اترك تعليق