تزحف عقارب الساعة ببطء باتجاه الساعة الواحد ظهراً.. ونحن نجلس أمام سيارة ” تاكسي ” هرمة، والعرق يتصبب من أجسادنا، الجميع ينظرون بشوق تجاه البوابة، كنا ننتظر شخصين ليكتمل عددنا، ونمضي في رحلتنا الميمونة، كل إلي غايته.. يجمعنا الدرب وتفرقنا المقاصد، نعم.. نحن رفاق درب وسجناء انتظار.. لا غير..!
وقعنا جميعا بإرادتنا في فخ الانتظار.. آه كم اكره الانتظار.. وأخشاه.. مع انه الحياة وحقيقتها..!!
فنحن خلقنا لننتظر.. ربما الموت وربما الجزاء.. وقد يأتي سريعا ذلك الموت.. كما أتمناه وربما يتأخر.. لا فرق علينا أن ننتظره وعندما يحضر نترك كل شيء ونرحل معه صامتين رغم أنوفنا.. نرحل.. ونترك الجميع ينتظرون موتهم.. بهدؤ وإتقان.. مثلنا.. آه.. مؤلمة هذه الحياة.. وخاوية رغم امتلائها..!!
نحب في حياتنا.. نسعد أو نشقى.. نقاسى الأمرين أو نتدلل.. لا فرق فستأتي لحظة تحسم كل شيء.. إنها الموت..!
ترى هل يعرف هذا الأغنياء كما يعرفه الفقراء.. ظلمناك أيتها الدنيا.. وظلمنا أنفسنا.. دخلناك مذنبين ونرحل عنك مذنبين.. أيضاً..!
احدهم نام.. يبدو أن طعم الانتظار لم يرقه، فانسحب إلي النوم وأقبيته لابد انه سافر وحقق غايته.. وربما عاد أيضاً، أراهن بعمري انه من عشاق أم كلثوم، فسماعها يجعل للانتظار نكهة.. !
جميلة هي الأحلام التي حرمتها، اثر إصابة جمجمتي بكسر في حادث سيارة.. اكره الحديث عنه فقد افقدني كل ثروتي، اقصد شبابي.. صحتي وذاكرتي أيضاً.. لذلك قررت أن احلم وعيناي مفتوحتان، واكتب أحلامي السعيدة على الورق، وكذلك الكوابيس..!
ترى.. لماذا سمينا الأحلام المرعبة كوابيس، ولم نسمي الأحلام السعيدة أي اسم..!
ربما.. لنخيف بها أطفالنا وأنفسنا أيضاً.. مجرد حروف ولمنها تحمل الخوف.. ياه.. شوهنا كل شيء.. حتى الحروف حملناها بشاعتنا وسخفنا.. فجأة.. ها هما شخصان قادمان نحونا.. أرى طيف ابتسامة يعلو الشفاه والفرح يتراقص في العيون كجارية في بلاط بني مروان أو عاهرة في كباريهات القاهرة.. لست ادري كم من الوجع تحمل تلك النسوة.. وماذا يتبقى لهن من الإنسانية.. لا اعتقد أن حمامة سترمي ريشها لتغرينا بأكلها كما يفعلن.. اجزم أن كل راقصة تبغض نفسها..!
القيا السلام واقتربا من السائق، تحاور الثلاثة بصوت منخفض.. ثم رحلا.. نظر إلينا السائق، وقال بأسف ” يريدان سيارة خاصة فـمعهما عائلة، لذلك أرسلتهما إلي الحاج صالح.. رزق ومكتوب له..!”
عادت الخيبة تخيم على الجميع.. وتدهسنا بقسوة.. مثل قدم مستعمرة، عدنا للانتظار من جديد.. ” ثمة مقبرة اسمها التفاصيل..!”.. عبارة تلح علي دائما كأنها طبعت على شفاهي، أو ربما نقشتها غادة السمان بحنجرتي واختصرت بها كل ما أريد أن أقوله.. هذه العبارة جزء مني.. نعم.. فعندما نعيش التفاصيل ونعيها.. نمل كل شيء.. كذا الانتظار فنحن نعيش لحظاته بإتقان.. ربما لو عشنا العمر كله بذات الإتقان الذي نعيش به لحظات الانتظار نمله وننتحر..!!
يا.. ننتحر.. خاطر رهيب.. أحد أصدقائي القدامى انتحر.. كنا نجلس سويا في مقعد واحد.. ابتعدنا لأننا ورثنا البغض ولكننا لم نختلف.. ذات يوم ترك الحياة.. ربما لأنه لم يجد ما يفعله فيها.. أو ربما لم يستطع الانتماء لها..!
تعاطى الموت يذكرني بالألم.. ويشعرني بالوحدة.. ذات يوم زلت نفسي إلي مكان ما.. قريب من الموت.. نعم.. زلت نفسي.. لا ادري إلي أين.. فلا تسألوني.. لان هنالك أماكن داخلنا لا نستطيع الوصول إليها في حالة الوعي.. شهر بأكمله لاشيء مني سوى نبضات متناقلة.. خربشات على شاشة جهاز الكتروني.. آه.. حياتي خربشات.. وكذلك حياة الكثيرين.. يقولون أني غبت عن الوعي..جميلة فكرة الغياب تلك.. ولكن ترى.. أين غبت عنه.. ولماذا عدت إليه..!!؟
ترى هل للوعي شوارع خلفية نهرب كالمدن.. يسكنها الفقراء والكادحين.. اقصد الطهر والبساطة.. مؤلمة هذه الحياة.. وخاوية رغم امتلائها.. وبشعة أيضاً..!
احدهم قادم باتجاهنا.. نعم.. ها هو الأمل يتجدد أمامنا.. لا بل نصف أمل.. ألقى السلام.. سال السائق وصافحنا… أحسست أن الجميع يريدون أن يحتضنوه، كأنه أسدى لهم جميلا بقدومه.. ها هو يجلس بجواري.. كساه الصمت.. مثلنا جلس لينتظر.. لا فرق.. كدت انفجر ضحكاً.. جاء لينتظر فقط.. مسكين.. يبدو انه مرصود للانتظار أيضاً..!
لست ادري لماذا أتذكر صديقتي وإساءتها..!!
عندما استوقفتني وشفتاها ترتجفان.. والشحوب يكسوها، كأنها خارجة من قبرها للتو.. قالت والكلمات تتقاتل في حلقها.. ” إذا كنت مريضا نفسيا فاذهب إلي طبيب وعالج.. ثم….!”.. لم اصدق، وقف الدم في عروقي، وكدت انفجر بركان غضب، ثورة عارمة في مدينة، ولكن تمالكت نفسي وتجاهلت كلماتها، لان أصدقائي اخبروها أني مزقت بحث التخرج المشترك بيننا.. ربما نسيت يومها.. أو تناسيت.. أما الحقيقة فلازالت عباراتها مغروسة في القلب كنصل.. تنهشني بفظاعة مرض خطير ومزمن.. وراء الوعي يختبأ أشياء كثيرة جيدة.. وسيئة..!
الآن.. كلما تذكرت صديقتي.. اشعر بالمرارة.. مجرد الذكرى تشعرني بالمرارة.. بعضهم نألم لذكراهم، وبعضهم نسعد لها.. آه يا ليث من نسعد لذكراهم يرجعون.. جميلة ملامح السعد.. وهادئة كملامح دمية.. عندما كنت صغيراً حطمت دميتي لأنها أضاعت حذائها.. والآن أخبأ بقاياها في أمتعتي.. هو نزق.. أو ربما جنون.. يقولون أن الجنون مرادف للحرية.. ربما.. ولكن…!!!
آه.. طال الانتظار.. ومللت هواجسي.. منذ ساعات ونحن ننتظر.. شخصا ما.. لا نعرف جنسه أو لونه.. ولا أي شيء من ملامحه.. كل ما نعرف هو انه مسافر مثلنا.. فقط.!
وها قد حضر،، جندي يتصبب العرق من جبينه.. صافحنا وحسم الانتظار.. هكذا.. هم دائما يحسمون..!