من أعمال الفنان محمد الشريف.
قصة

كلب الرئيس و كلب الغفير

أ. مساعد د. جمال عبد القادر أمهلهل

قسم الهندسة الميكانيكية – كلية الهندسة – جامعة عمر المختار – البيضاء – ليبيا

email: Amhalhelss@yahoo.com

 Mohammad_Esharif (4)

ساعة الغروب، و قرص الشمس الأحمر يحتضن القصر الرئاسي، عادةً أستوقف سيارتي جانباً، و أنا في الطريق إليه لأمتع نظري به، قبل أن يحتضنه البحر، سيما عندما تكون القبة الحاوية لمكتب الرئيس وسط ذاك القرص، لكم أحببت ذاك المنظر.

أتواجد يومياً بالقصر الرئاسي، فأنا أعمل مُراسلة صحفية، أغطي نشاطات القصر، أحضر المؤتمر الصحفي اليومي للناطق الرسمي للقصر، و أحياناً كثيرة المؤتمرات الصحفية للرئيس، عمل أتقنته على مَدار أربعين سنة، و يزيد قليلاً، اكتسبت منه الكثير، لقاءات صحفية و أحياناً مرئية مع الرؤساء و السياسيين، أصدرت الكثير من الكتب عنهم، كتباتي بعيدة عن الإثارة، موضوعية و تسعى للحقيقة، هذا إن كان بالإمكان القول، أن للصحافة أو للإعلام حقيقة إخبارية، بمقابلاتي أتابع سكنات و حركات ضيفي، لا أضايقه أو أحرجه، أطرح الكثير من التساؤلات، أبتعد عن الأسئلة المباشرة، إلا في ما ندر، لا أحب أسلوب المحققين، لذا أجدهم مرتاحين معي، لتخرج أسرارهم من مكامنها.

لا أكثر من الكلام، حتى مع الزملاء، الابتسامة تكفي عن القول، هذا أكسبني احترام و ود الجميع، العاملون بالقصر، و المجموعة الصحفية المتابعة لأخباره أيضا، الصداقة في حدود العمل، جُل وقتي مُكرس له، لذا مُجالساتي قليلة جداً، و مع هذا يقولون عني إني أرقص كالفراشة و ألسع كالنحلة، وصف للملاكم الشهير محمد علي، إن كان هذا حقيقة، فهو شُرف لا أدعيه.

بالفترة الأخيرة شعرت بالملل و الإحباط، ليس من عِبء العمل، بل من تكراره، أضحى نمط حياة لا يطاق، و مع هذا أجد الكثير من المُتعة فيه، لذا عقدتُ العزم في بداية هذه الدورة الرئاسية أن أشغل نفسي قليلاً، بعمل يُبدد النمط الذي آلفته طويلاً، سُرعان ما وجدتها، أسترعى انتباهي وجود كلبين في القصر الرئاسي، أحدهما للرئيس، و الأخر لغفير القصر، أعتاد الجميع على نعته بهذه الصفة، فهو مُنسق حدائق القصر، و العلاقة بين الكلبين لا تبدو ودية كما خبرتها، لذا قررت تتبع ما يجرى بينهما، لأفهم كل حركاتهما و ساكناتهما.

كلب الرئيس من سلالة أجنبية، أسود اللون، ذو قوائم طويلة، جسمه رياضي جميل، ذو ذيل قصير لا و بر به، أما كلب الغفير فسلالته وطنية، جسمه انسيابي رياضي، ذو ذيل وبري طويل، يتخلل جسمه و صدره بعض البقع البيضاء في تناغم رائع مع لونه البني.

لطالما حاول كلب الرئيس المُشاكسة، إلا أن كلب الغفير لم يجارى أبن جنسه فيما كان يضمره له، في أحد الأمسيات وقف كلب الرئيس كالسد يمنع كلب الغفير من المرور من أمام الواجهة الرئيسة للقصر، أخذ يضرب الأرض بأقدامه، وقف على قوائمه الخلفية نابحاً، كأنه يتجهز لمعركة شعوا، أما كلب الغفير فوقف على مسافة ليست ببعيدة، ينظر باستهجان، تكرر هذا المشهد أمامي عدة مرات، في المرة الأخيرة، حدث شيء لم استطع فهمه بسهولة، ركض كلب الرئيس ليصعد السلالم الرخامية حتى الباب الرئيس للقصر، جيئةً و ذهاباً عدة مرات، ثم وقف على مقربة من كلب الغفير، صادراً الكثير من الهمهمات الغاضبة، كأن لسان حاله يقول لكلب الغفير، هذا المكان لنا، أذهب إلى صاحبك، لا تقترب من هذا المكان، إنه لنا، من إيماءات كلب الغفير توهمته يرد قائلاً ألم تسأل نفسك أين كنت تقيم مع صاحبك؟ هل يا ترى كنت تشاهد كل هؤلاء الناس من حولك؟ لا – لا – لا ستقيمون في هذا القصر لبضع سنين فقط، هذا ما قاله لي صاحبي، ثم ترحلون عنه، حسبت هدوء كلب الرئيس وقفة استغراب و دهشة لما قاله كلب الغفير!

من قراءاتي عن الكلاب، الكلاب ليست عدائية بطبعها مع أبناء جنسها، تتقاتل فقط على القيادة – و المركز – و حصة كبيرة من الفريسة، شأنها شأن الحيوانات الأخرى، و لكن أمامي كلبين فقط، يبدى كلب الرئيس حقه في الحظوة التي يتمتع بها صاحبه كمالك للقصر! أما كلب الغفير فيُعامل كدخيل!

من مشاهداتي بالقصر أيضا، اصطحاب الرئيس كلبه في نزهات حول القصر، و لعب كلبه بآلة ذاتية الحركة لرمي القرص، لكم شاهدت الكلب يضع القرص بها لتقذفه بعيداً، يركض وراءه يلتقطه، يدفع القرص مجدداً في الآلة ليعدو في أثره من جديد، و هكذا دواليك، أعتاد الرئيس أن يصفق لكلبه، و يمتدحه بمعسول الكلام، فجأة تبددت لحظات السكون، و مُتعة اللعب، أخذ كلب الرئيس ينبح بقوة، ضارباً الأرض بأقدامه، ناظراً شطر أحد التلال المُحيطة بالقصر، غلبني الفضول لأنظر أنا أيضاً، لمحت كلباً آخر، إنه كلب غفير القصر، تعالى نباح كلب الرئيس، و كأن لسان حاله يقول لأبن جنسه، أذهب بعيداً، ماذا تريد؟ ثم أخذ يدور حول آلته عدة مرات، ثم وقف ليضرب الأرض بأقدامه، و يقول إنها لي، إنها آلتي، أذهب بعيداً، على الرغم من توتر و عصبية كلب الرئيس، لم يَعره كلب الغفير أية انتباه، فقد ظل مُستلقياً مُتماسكاً أعلى التلة المُطلة على الحديقة، كذلك الرئيس الجالس بقرب الآلة، لربما أعتاد أيضا على نباح كلبه.

يَطل الباب الخلفي للقصر الرئاسي على حديقة أرضها نجيلية خضراء ناعمة، تشغلها الكثير من الورود الجميلة في تناسق رائع، أحسب أنها أجمل أركان حدائق القصر، و لغفير القصر كوخ تُحيطه الأشجار، أشجار الحديقة الخلفية للقصر، تعودت أيضاً الذهاب إلى كوخ الغفير، حيث أعد طاولة يستريح عليها، و ليقدم الشاي المَمَزوج بطعم الزهور لضيوفه، ليس كثر، أنا فقط على ما أظن، تذكرت إني سمعت الغفير يُلقن كلبه أن الرئيس الجديد له كلب من غير سلالتك، أبتعد عنه، لا أريد مشاكل، إن صبرت معي هذه السنوات الأربع القادمة، لن يجرؤ أحد على إيقافي عن العمل أو حتى طردي من هذا القصر، ألزم الهدوء و تجنب مشاكساته، حَسبت سَماعي لهمهمات الكلب تؤكد استيعاب كلام صاحبه، خرج الغفير من باب الكوخ، يُدلل كلبه بطيب الكلام، و كلبه يتمسح بأقدامه و يدور حوله، عرفاناً بالجميل و طاعةً لصاحبه، نظر فوجدني جالسة، قال لي و البسمة على شفتيه، عذراً، السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، إنهم يقولون عنها كلاب، لكن مع تدريبها و تلقينها تعي ما يُقال لها، أومأت إليه برأسي مُعبرة عن استحساني لما قاله.

حدث ذات مرة أثناء مُجالستي للرئيس، و كلبه يلاعب الآلة، توقف الكلب فجأة، أخذ ينبح نباحاً عالياً عدة مرات، عندما لم يستجاب له، أخذ يعدو في اتجاه أعلى التلة الرابض عليها كلب الغفير، لوهلة خُلت أن عراكاً سينشب بين الكلبين، لحظات … و رأيتهما يركضان معاً و يتجهان نحو الآلة، حدث هذا أثناء مُحادثتي للرئيس، لم يستغرب لما حدث، و كأنه أمراً قد تعود عليه، وقف كلب الرئيس أمام الآلة، أدرج فيها القرص الذي أنطلق بعيداً، ثم أخذ ينبح، مُلمحاً لكلب الغفير أن يعدو ليلتقط القرص، إلا أن كلب الغفير وقف بجانب الآلة، أخذ ينبح هو أيضاً، يُريد أن يستخدمها بنفسه، تكرر المشهد عدة مرات، أمام هذا الإصرار تركه يستخدم الآلة، أمسك كلب الغفير بالقرص، دار حول الآلة يتفحصها، و قف كلب الرئيس مستغرباً، كأن لسان حاله يقول لكلب الغفير … هيا أرني كيف ستلعب بها؟ فجأة و أمام ذهول كلب الرئيس لقم كلب الغفير الآلة بالقرص، أنطلق يُسابق الريح ليتقدم القرص، و يلتقطه قبل أن يقع على الأرض، كرر لعبه مع القرص بحركات رائعة وسط استنكار و استغراب كلب الرئيس، لف وشاح الغيرة كلب الرئيس، تساءل كيف بإمكانه أن يفعل هذا؟ كيف أكتسب كل هذه المهارات؟ ليس لديه آلة خاصة به! تقدم ليمنع صديقه من اللعب قائلاً كفي … كفي لعباً، … يكفي- يكفي … يكفي هذا اليوم!

في السنة الثالثة للدورة الرئاسية، بأحد مقابلاته المرئية المباشرة، و رداً على سؤال مُستضيفه، لماذا يا سيادة الرئيس اقتنيت كلباً أجنبياً؟ لاسيما سُلالة الكلب خاصتك، فهي تتأقلم بصعوبة مع بيئتنا، أجاب الرئيس أن الكلاب الوطنية كلاب وسخة، تحتاج إلى الكثير من المعاناة، صعبة المراس، غير مدربة، كثيرة المرض، أقسم لكم بأن هذا المستضيف ليس أنا!

حال انتهت القناة الإعلامية من بث المُقابلة الحية، بدأت صباح اليوم التالي حملة صحفية و إعلامية شعوا لأجل نصرة الكلاب الوطنية، أتهم الرئيس بالعداء للكينونات الوطنية، البعض شكك في مواطنيته، أخذت الحملة على عاتقها النيل من أي شخص ينبذ الكينونات الوطنية، و إن كانت ذبابة! وأعدته من أعداء الوطن، حاول الرئيس جاهداً إقناع الرأي العام بأن تصريحه أسئ فهمه، هيهات – هيهات هذا لا يعقل! كانت مُقابلة مرئية حية، على الهواء مُباشرة، اعتبرت المقابلة مؤامرة لإسقاط الرئيس سياسياً، حدث هذا بالفعل، لم يتبقي على الفترة الرئاسية للرئيس إلا سنة واحدة، خسر تأييد شعبه، و اختار حزبه زعيماً آخر ليتنافس على سدة الرئاسة، فالانتخابات الرئاسية على الأبواب.

ذات يوم عند الظهيرة، رأيت كلب الرئيس رابضاً عند السلم الرئيس للقصر، يبدو كالنائم، لم يكترث لقدوم كلب الغفير، فعادةً يقف في طريقه يمنعه من المرور، و يمشي بخيلاء تظهر أكتافه و تناسق جسمه، على غير عادته، ظل كلب الرئيس ساكناً، لم يرفع رأسه ليرى كلب الغفير قادماً، كنت على مقربة من كلب الرئيس، لم يبالي أيضاً بوجودي، أقترب كلب الغفير، كاد أن يلامس كلب الرئيس، أخذ يدور حوله، ماسحاً رأسه بجسم كلب الرئيس، مُحاولاً حثه على الوقوف، إلا أن كلب الرئيس لم يبالي به!

جلس كلب الغفير وجهاً لوجه أمام كلب الرئيس، سمعت همساته لأبن جنسه تقول، ما بك يا صديقي؟ لماذا كل هذا الوجوم؟ أعارضاً ألم بك؟ بادئ الأمر لم يجبه، بعد إلحاح مُجهد، قال كلب الرئيس، إن ما قلته لي صحيح، صاحبي سيغُادر هذا المكان، سنرجع إلى مكاننا القديم، هكذا قال صاحبي … سأذهب إلى سكن صغير … صغير جداً، ليس به سماء – أو شمس – أو قمر – أو نجوم – أو هواء – أو أرض خضراء، لا أستطيع أن ألعب بآلتي، إلا إذا أخذني صاحبي إلى مكان … مكان بعيد … بعيد … بعيد جداً، لا يحدث هذا كل يوم كما أفعل ها هنا … هنا أستطيع أن ألعب بمفردي عندما يكون صاحبي غائباً عني، لماذا…؟ لماذا يترك هذا المكان؟ لماذا لا يقيم … لا يقيم … ها هنا؟ ثم أردف قائلاً إني أفكر في أن أبقي معك! رد عليه كلب الغفير قائلاً، ماذا…؟ ماذا سيقول عنا البشر؟ نحن يا صديقي نذهب حيث يذهب أصحابنا، علينا أن نكون أوفياءً لهم، هذه هي حياتنا يا صديقي، يجب أن نتقبل حلوها و مرها، حتى و إن أردونا للتهلكة، فصحبتهم غايتنا!

انتهت الهمسات، بنباح كلب الغفير، تستنهض صديقه قائلاً، هيا … هيا نستمتع بحياتنا، و ندع أمور البشر للبشر، وقف كل مُنهما على قوائمه الخلفية، وقفا وجهاً لوجه يتعانقان، بدأ لي كأنهما يريدان أن يتسابقا، فجأة ركضا بعيداً عني، ليرجعا و يقفا في نفس اللحظة، عند عين المكان، حقيقة لم أعرف من منهما أراد أن لا يسابق الآخر؟ حقيقة الأمر الذي تعلمته من هذه المشاهدة، أن الحيوانات تتلاقي في أوقات المحن لتؤنس وحشتها من ظلم البشر.

بدأ التحضير لسباق الرئاسة، كل حزب اختار مرشحه، و ربطت بين كلبي القصر صداقة أثارت دهشتي و شُجوني، أخذت التساؤلات تراودني، ماذا لو عرف كلب الرئيس أن من بعض أسباب ترك صاحبه القصر الرئاسي كرهه للكلاب الوطنية؟ هل من حق هذا الكلب المسكين أن يعرف الحقيقة؟ لا أفكر في الفتنة، و لكن هل ستستمر الصداقة بينهما كما هي الآن؟ يعتمد بقاء الرئيس أيضا على صندوق الانتخابات، فتداول السلطة أهم بكثير من مجرد حب أو كره الكلاب الوطنية، إن استطعت أن أقول لكلب الرئيس عن السبب الأول! فكيف لي أن أشرح و أقنعه بأهمية السبب الثاني! من حق كلب الرئيس أن يعرف الحقيقة، لاسيما من صاحبه بالتأكيد، و إلا لماذا يقتني الرئيس كلباً؟ الكلاب ليست للتسلية، إنها حياة، لها حقوقها، و يجب أن تحترم على أنها كذلك.

تلك كانت أهم محاور تحقيقي الصحفي عن كلبي القصر، لي رغبة شديدة في أن يُنشر، اهتديت بصعوبة لعنوان له “كلبا السنة” ها أنا ذا أتمشي بالردهة، هممت بفتح مكتبي، أطل علي رئيس التحرير من بعيد، رأيت أن أنتظره، أقترب مني، ألقى التحية بوجه بشوش مرحباً، رددت بأحد ابتساماتي التي يعرفها جيداً، سألني هل انتهيت من تحقيقك الصحفي؟ قدمت إليه مخطوطتي الورقية و الصور، حال استلامه لها، رفع نظارته لأعلى رأسه، أيقنت أن التحقيق لاقي قبولاً حسناً، أمعن النظر فيه، رفع رأسه، و رمقني بعينيه ثم قال لي، عنوان جديد و فريد من نوعه، ثم أردف يقول ما أهتم به الآن، هل المرشح الرئاسي القادم يحب القطط الوطنية أم لا؟ ثم استرسل قائلاً، هل تعي كلامي أيتها النحلة؟ و نظرن بعينين ملئهما المُكر و الدهاء، ثم أسترسل قائلاً، أريد الإجابة عن سؤالي قبل أن تبدأ الحملة الرئاسية للانتخابات، هل تفهمينني!؟

شحات 26/9/2011

أ. مساعد د. جمال عبد القادر أمهلهل

قسم الهندسة الميكانيكية – كلية الهندسة – جامعة عمر المختار – البيضاء – ليبيا

email: Amhalhelss@yahoo.com

مقالات ذات علاقة

احسن اكلاب

محمد النعاس

شعبٌ من الغبار

عبدالمنعم المحجوب

محلل

إبراهيم حميدان

اترك تعليق