من أعمال التشكيلية الليبية .. نجلاء الشفتري
قصة

احسن اكلاب

كان حاضراً بقوة، القمر على عتبات الجبانة كان حاضراً بقوة، ونباح الكلاب بين القبور يزيد من سذاجة الموقف، ورائحة الجثت الجديدة لازالت معفرة بالتراب تجذبها، وبين ألوان القبور الممسوحة من حرارة الشمس وعبث الرمال كان لازال أحدها متعالياً بلونه الطيني يزينه عسف أخضر من النخيل، وخيط أبيض يظهره على الجبانة كلها، يقولون خمسة وسادسهم إنسانهم، ويقولون ستة وسابعهم إنسانهم لبثوا في الجبانة بضع ساعة أو يزيدون قليلاً، كان احسن كلاب وقد خطت الحبال الستة التي يمسكها خدوشاً في يده يرعى كلابه صباح مساء،على أنه يفضل الليل بعيداً عن عبث الأطفال وخوفهم.

كان حاضراً بقوة، احسن كلاب رجل خمسيني بلحية فوضاوية في وجهه المشلوح من حرارة الشمس ورائحة نسيم البحر المالحة كصفائح الأرض ممتلئاً بالتعرجات، لازال متمسكاً بأربعة أسنان أمامية متلاصقة  في كل من الفكين قد خط الشايْ والسجائر طريقهما فيها وتبعثر ما تبقى من أسنانه الهشة، شعره المندحر إلى مؤخرة رأسه مغطىً بقبعة صوفية في الشتاء زاولته سنين وأخرى تقليدية في الصيف، ومعطفه الأسود الكبير يزيد من فوضوية حياته، ورغم أنّ الأطفال كانوا يعتقدون أن كلباً ما قد عضه أو أن أباه قد يكون كلباً ( فقد رآه أحدهم ينادي كلابه : يا صغاري!) إلا أن شيئاً من ذلك لم يكن من ضمن أسباب حبه للكلاب وغرامه بها، والنساء عندما يمررن بجانبه تتجاذبن حديثاً فكاهياً ما يقول :

–       حب بنيّة وهِي حباته، الكلاب وافت.. وهِي خاناته.

وقد كان احسن اكلاب كما يناديه البنات متزوجاً، ببيته الصغير ثلاث غرف، واحدة لأمه العجوز والتي طالما ساقها القدر لأن ترعى الفتىَ، وأخرى له ولزوجته التي لم يرزق منها بأبناء، الغرفة الثالثة من البيت كانت تبيت بها الكلاب الستة التي يشرف حسن على رعايتها وتربيتها، زوجته حلفت له بأنها ” تموت بالجوع ولا تعيشهم بالشبع” حتى تقطع دابر القصص التي تقول أنه ما تزوجها إلا لتطعم الكائنات ” المعفنة”، بعضهم كان يقول أيضاً أنه ما بدأ بتربية الكلاب إلا بعد يأسه من إنجاب زوجته لطفل يحمل اسمه ، ولكلاب حسن الستة أسماء، كان أبداً لا يخطئ بينها، فتلك اكحيلة الكلبة الأم التي يعود أربعة منهم إليها تتكئ دائماً أمام الباب ونظرة حزينة منها لا تبتعد عن النافذة التي يتخللها ضوء بسيط، وذاك ريكس، وشارون الذي سماها حسن هكذا بعد ثورة الحجارة، قال وقتها للكلب الصغير ” انت شارون صح، لكن هو أكلب منك”، وهناك ليزا وبوش الذين يبدوان متشابهين جداً، والعربي وهو كلب متشرد وجده ذات مرة في الجبانة يتألم من جروح ساقه القدر إليها بعد أن امسك به مجموعة من الصغار وبدأوا يدورون به الأحياء وهو يعوي ويئن، وعندما مروا بجانب الجبانة وجدوا احسن اكلاب يدور بكلابه الخمسة، كان صوت أحدهم يعلوا عالياً منذراً إياهم:

–       اومة، احسن اكلاب!

كانوا يعتقدون أنه سينتقم منهم لفعلتهم التي فعلوها ” ببني جنسه”، إلا أنهم بعد هروبهم أسرع نحو الكلب المسكين وفك رباطه، وفي البيت ولولت زوجته المريضة في وجهه بعد أن أحضر لها الضيف الجديد، وطلب منها أن تحضر الحليب وقطع قماش وقربة ماء للكلب، ولولوت وصوتت وخرجت لا تولي إلا بيت أهلها يأكلها الحنق والغيظ من زوجها المهتم بكلب ولا يهمه إن مرضت زوجته أم لا. تحسن حال العربي، الاسم الذي أطلقته زوجته عليه مبينة لأخواتها أن هذا الكلب أغلى على قلب زوجها منها ” نحبها حب حسن للعربي”، تقول لهن ساخرة عندما يأتين بسيرة امرأة تكرهها، ضاربة في ذلك التناقض بين المثاليْن.

واحسن يقضي الساعات في الجبانة، لم يدرِ أحد لماذا كان يفعل ذلك حتى أنه في حالات عديدة كان ينام بالجبانة مع كلابه التي ما إن يصل لأرض الجبانة حتى يرخي الحبال عنها لترعى وتسرح بالجبانة ثم تعود إليه وهو متكئ على إحدى الأشجار أو برأسه على قبر أبيه، ويسمح له الوقت أن ينال من الضجر بقتل علبة سجائر الرياضي القديمة التي اشتهر بامتلاكه لها، يقوم بشراء سجارتين أو ثلاثة حسب الحاجة ويضعها بالعلبة القديمة وحتى عندما ينعم عليه الحال ويشتري علبة كاملة يقوم بإفراغ السجائر العشرين بالجديدة في القديمة.

إلا أنّ أحداً لا يعرف لحسن عملاً معيناً، ورغم أنه غالباً ما يكون باحثاً عن الخردوات والقطع النحاسيةو والحديدية بالمكب الصغير المجاور للجبانة ليقوم ببعيها لخرّاد* ما، تساعده كلابه الستة في البحث والتنقيب عن المعادن، ويقوم بالتقاط علب المياه الغازية المبعثرة في الحارات والأزقة إلا أنه أيضاً كان البعض يراه في سوق اسبان يعمل حمالاً للبضائع، الوقت الوحيد الذي لا يرون كلابه فيه معه مسلمهم في رعاية أمه وزوجته.

لم يذكر أحدهم لماذا تخلى حسن على رعاية الكلاب في سنينه الأخيرة قبل أن يوافيه المرض الذي أقعده تحت بساط الأرض إلا أن البعض يقول أن زوجته وفي إحدى الليل قد دست سم الفيران بالنعمَة التي كانت تضعها للكلاب كل ليلة، جُنَّ حسن ولم يصاحبه عقله بعدها، بعضهم يسخر من جنون حسن… فهو مجنون منذ البداية كما يقولون، أما البعض الآخر فكان يقول أنه حزِنَ على موتِ اكحيلة الكلبة الأم، أما القليلون فقط من قالو بأنّ احسن كان نيّة من دون أن يقوموا بالحديث عن أي علاقة تجمعه مع الكلاب… وخصوصاً الكلب الذي يُشاع بأنه قد عضه.

*خرّاد: بائع الخردة والمعادن.

مقالات ذات علاقة

سيرة الطفولة

غزالة الحريزي

المنفى

خيرية فتحي عبدالجليل

أحــبــك

سمية أبوبكر الغناي

اترك تعليق