عبد الرحمن بشير الرقيعي
أيقظه من نومه صوت أطفال يلعبون بصخب وهم يجمعون أزهارا تساقطت من شجرة برتقال بجوار النافذة. نهض متثاقلا وهو يحس بالتعب وفتح النافذة، باغته عبير الأزهار الفواح الذي ينتشر في الأرجاء ويتغلغل في الأنفاس، لطالما أحب هذا العبير، ولطالما وجد له انشراحا يجهل كنهه، ولسبب يجهله أيضأ اقترن هذا العبير السحري بالفقد.
-الفقد… آه من الفقد، هكذا حدث نفسه.
التفت إلي حيث يلعب الأطفال وارتسمت علي شفتيه ابتسامة صغيرة لا تكاد تبين وسط سحابة الحزن التي كانت تغطي وجهه، فاليوم هو اليوم السابع لرحيل والده و لا يزال يشعر بمرارة الفقد .
من بعيد كان أحد إخوته يدفع عربة يدوية يجمع فيها الأكواب الفارغة والمخلفات بعد انتهاء مراسم العزاء، بينما كان إخوته الآخرون يقومون بإزالة خيم العزاء وتجميع الكراسي وترتيبها استعدادا لإرجاعها.
لاحظ من بعيد أن مسحة الحزن قد اختفت من وجوههم وأن مياه الحياة قد عادت إلي مجاريها، أشعل سيجارة وأخذ نفسا عميقا وبدت علي وجهه ملامح الحيرة واستولت عليه تلك الحالة التأملية التي طرأت عليه منذ اليوم الأول لوفاة والده وجعلته ينظر للموت بطريقة أخرى، فيبدو ان الموت لا يأتي وحده فحسب ،بل هو يجلب معه الحزن والنسيان ، ولعلنا حين ندفن الميت ندفن معه الحزن ويبقى النسيان مع الحي وإلا فكيف للحزن أن يذهب بهذه السهولة.
هبت نسمة رقيقة محملة بجرعة أخرى من عبير الأزهار، سرت رعدة خفيفة في أوصاله وشعر بخدر لذيذ ينتشر في جسده، أغمض عينيه ورحل إلى هناك.
كان الوقت أصيلا وكان جالسا على كتفي والده يجمع أزهار البرتقال من الشجرة ليصنع عقدا من الأزهار الطرية. من منزلهم ارتفع صياح وعويل، على باب المنزل رأى جدته وعماته وأمه يبكين وبعض الجارات يواسينهن بالعناق ونوبات البكاء، أنزله والده هناك ومضى.
بعد ثلاثة أيام رأى والده، أسرع إليه وعانقه بلهفة.
-بابا.. متى سيغادر الناس بيتنا؟
– قريبا سيفعلون
-بابا.. لدي خبر سيء
– وما هو؟
-قالت إحدى النسوة أن جدي رحل إلى مكان بعيد، ولن يعود، هل هذا صحيح؟
– نعم هذا صحيح، وكلنا سنرحل إلى هناك يوما ما.
– وحتى أنت يا بابا؟
-نعم.. حتى أنا
– لكنني لا أريدك أن ترحل يا بابا.
أطبق الصمت على المكان إلا من زفرات حارة تخرج من صدر والده الذي أشاح بوجهه بعيدا.
– بابا .. أنظر .. لقد صنعت عقدا من أزهار البرتقال، لقد ذبلت الأزهار قليلا ولكنها مازالت محتفظة بأريجها، أنظر … وضع العقد على أنفه الصغير وأخذ نفسا عميقا، استسلم لنوبة الخدر، أغمض عينيه ونام.
-بابا .. بابا.. بابا..
فتح عينيه ببطء، كان ابنه الصغير يناديه عند النافذة وبهجة بريئة تطفح من عينيه.
– بابا… هل كنت نائما؟
بدا تائها لوهلة، وأحتاج لحظات ليجمع شتاته ويستجمع أفكاره، ثم اومأ إلى صغيره مستفهما.
– بابا.. أريد ازهارا طرية، هيا ساعدني في الحصول عليها، هيا ..
نظر إلى صغيره مطولا، ثم أجاب:
-حسنا… سأساعدك
تقافز الصغير جذلا وانطلق إلى الشجرة متراقصا.
راقب صغيره لفترة وابتسامة باهتة ترتسم على شفتيه.
-مازال صغيرا لا يدرك معنى الفقد
-الفقد… آه من الفقد، حدث نفسه مرة أخرى.
هبت ريح خفيفة حملت معها عبق الأريج النفاذ، لم يغمض عينيه، بل أخذ نفسا عميقا وهو يراقب المشهد، كانت الشجرة تتراقص مع الريح متوشحة بأزهارها وكأنها عروس ليلة زفافها، تحت الشجرة كان ابنه في انتظاره وهو يتراقص بسعادة ويدور حول نفسه كالمجذوب، وعلى الأرض تساقطت الأزهار الذابلة والريح تطوح بها بعيدا.