لقد علمتني أمي منذ صغري بأن الخطأ يُقوم بالضرب، فكانت فردة حذاؤها تسبق تحذيراتها، حتى أنني لم أكن لأعرف ما هو الصواب من الخطأ، إلا بعد حصولي على كدمة بحجم البطشة على جبهتي أو رأسي إذا كنت محظوظة، مرات عدة حاولتُ أن أترك منزلنا، وهددت والدتي بذلك! ولكنها لم تكن تكترث لكلامي، في كل مرة كنت أحمل كيساً شفافاً أضع فيها فردة حذاء كل واحدة بشكل مختلف، وأصف فيها عرائسي الخشبية التي زينتها بقطعة قماش من فستان أمي القديم التي أبللها لأغطي بها جسدي في حر الصيف.
في إحدى المرات أقسمت عليها بأن خروجي من المنزل اليوم لن يعقبه عودتي، كنت أنتظر ردت فعل مساوية لتهديدي، ولكنها اكتفت بقول “بُودي ڨلي” ثم استمرت في جمع أوراق المعدنوس على الصفرة.
كلمتها تلك جعلتني أشعر بالخطر، لابد أنها تعلم وجهتي، أخذت في التفكير ملياً، كنت أقف على حاشية الباب أقلب قدمي في الرمال “طيوري” الحارقة، كان موسم الصيف آنذاك، الوقت قرابة المغرب، أتذكر سبب شجاري مع أمي يومها، لأنني رفضت إحضار ماء الشرب من بيت الجيران، حاولت بشتى الطرق أن أذكرها بأن اليوم هو دور مريم -أختي-، إلا أن أمي لا تنصت إلي، وما زاد من انزعاجي أن إرغامي جلب الماء في دور مريم، ليست المرة الأولى، ولكنني اليوم فقط قررت أن أحدث شيئًا مختلفًا، أن آخذ قرارًا لتصحيح مسار أدوار التي تكلف عشوائياً في هذا المنزل. لذلك قررت الذهاب لبيت جدتي هناك حيث يمكنني العيش بسلام، بعيداً عن حذاء أمي! وحمل براميل الماء.
حركتْ قدمي في الرمال لا تشي بشيء، أحمل كيسي بيد وأمسح دموعي بيد الأخرى، لا شيء مما أفعل يبدو أنه يحدث فرقاً في تزمت أمي! خلصت لأشياء عدة منذ أيام ربما لسنوات “أمي … لا تحبني”، “جدتي .. تحبني كما يحبني أبي”، لن أتراجع عن قرار العيش مع جدتي مهما حصل، ولكن على أمي أن تدرك أنني أيضا لا أحبها، نعم لا أحبها “لا أحبك، لا أحبك أنت لستِ بأمي”.
مسحت مخاطي بساعدي فاختلط بدموعي تاركاً خريطة لزجة على وجنتي، لم تتكلم أمي فصرخت في الأخرى “لا أحبك … أنا أحب هردا.. هي أمي الحقيقية”، في هذه المرة رفعت أمي رأسها ثم ضمت على شفتيها السفلية وهزت رأسها واختصرت تهديدها بـ”شكرن”، لم تكن أمي تجاريني في الحديث في تلك اللحظات، أمي امرأة صارمة لا تعرف إلا الضرب، وخاصة معي، هي تتحدث كثيراً مع الآخرين ولكن عندما يتعلق الأمر بي كانت تكتفي بردود مقتضبة، وأشعر في ثناياها بتهديد ووعيد شديدين.
لكم تمنيت أن تسألني لماذا لا أحبها؟ لماذا أصرخ في وجهها بأنها ليست أمي؟! أن تسألني بشيء من الحنو كما تفعل جدتي -هردا-. إنني أتعرق، حتى غروب الشمس لم يغفر لي، قامت أمي للصلاة شعرت بأنني بحاجة لشرب ماء، نظرت لكأس ماء بجانب سجادتها، توقفت عن تقليب قدمي في الرمال، أغرتني قطرات الماء الباردة حول محيط الكأس، لابد أنه لايزال محتفظاً ببرودته، نظرت في وجه أمي وكأنها منقطعة عن العالم، فهي في اتصال بالسماء، جامدة في الخشوع لا يتحرك منها سوى شفتيها، حتى ركعت بصمت.. هذه اللحظة التي يجب أن اقتناصها -السجود-، وضعت كيسي أمام الباب، اقتربت مسرعة احتضنت كأس الماء، في لحظة محاولتي صب الماء في كوب حديدي سكب جله على الصفرة، لا يهم سأشرب، حملت الكوب قبل أن أتلذذ ببرودة الماء وهي تسري في أمعائي، تلقفت اصطدام على قفاي، أوشكت ان أرتطم بجبهتي على الحصير لولا رحمة يداي، هممت لأقف على قدمي ولكن قبضة أمي أحكمت حركتي، صرخت في طلب المغفرة “أمي سمهتو .. أمي سمهتو”، كانت أمي تهز رأسها وهي تقرأ التشهد، إنها لا توافق على أخلاء سبيلي، أعرفها عندما تتوعد، كان من سوء حظي أنني جئت في سجدة ركعتها الأخيرة، عرفت مصيري قبل انتهائها من الصلاة.
نمت تلك الليلة كما في مراتي السابقة والحرارة تحرق قدماي من التورم!
بودي قالي: جيد جداً “قيلت هنا كنوع من الوعيد”.
طيوري: حي من أحياء مدينة سبها.
هردا: اسم تباوي وتعني “ذات الخير”.
سمهتو: سامحيني.