رحلة في مدينة غدامس الجنوبية، المشهورة بمهرجانها السنوي الذي يجذب أعداداً كبيرة من السياح من كل دول العالم.
في تشرين أول/ أكتوبر من العام 2010 وقع ما ستقرؤون، كتبته أثناء حرب 2011 لأستحضر أشياء جميلة، انتظرت المزيد منها بعد سكوت الرصاص، ولكن، الآن في العام 2013 وفي ذات الشهر، تبدو غدامس أو قداموس (أقصى الجنوب الغربي لليبيا)، غائبة بأخبارها ومهرجانها، وكأنها على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، وكثيراً ما تساءلت: هل عمي أحمد صاحب دكان المشغولات الجلدية في المدينة القديمة بخير، وابنه الذي صنع الحذاء المزركش الذي ألبسه الآن على أي جهة محسوب؟
ربما لن أعرف!
حينما اجتزنا واحداً من أبواب المدين، كان الوقت منتصف الليل وبدت غدامس على وشك النوم. عدا ما ظهر أنه وسط البلدة، عمه الضوء وتناثرت به مقاه يتحلق حول طاولاتها بضعة رجال بفناجين الشاي ويتنفسون الأرجيلة. توقفت ثرثرتهم أثناء تحديقهم بباصنا المارق بحمولته في اتجاه الفندق في مشهد ألفوه لسنوات في أيام غدامس الثلاث التي تمنح هذه المنطقة حيوية وتسلية قبل أن تغرق في رتابة الطقس والحياة.. شبه الساكتة.
في فندقنا كنا فقط على مسافة 9 كيلومتر عن الحدود التونسية، و15 كيلومتراً عن الجزائرية، وجنوب غرب طرابلس، وفوق سطح البحر بما يقترب من 375 متراً، كما أننا انتهينا لتونا من 600 كيلومتر من الخلاء فرض لوناً باهتاً، لم يفلح بعض شجر السدر بلونه القاتم في إبهاج المشهد، تخلل ثبات الصفرة العامة شبه حيوات في بلدات متناثرة غير معنية بالمارين.. يقدم بعضها خدمات أقل من متواضعة وبعض الفضول .. وتهم أخرى باللامبالاة التامة.
قبل بضعة قرون ماكان بمقدورنا الولوج الليلي السهل هذا، والحارس على البوابة الليلية (باب الظهرة) يعرف وجوه الأهالي واحداً واحداً.. فهذه القلعة المحروسة جيداً والتي تقفل أبوابها بإحكام (سبعة أبواب) ما أن يلوح المساء.. لم تكن جنة من دون تعزيزات أمنية، أدارها الغدامسيون باقتدار على مدى حياة هذه الحاضرة..
حكاية بدأت مع الأسوار التي أمر ببنائها كركلا ابن الامبراطور سيبتموس سيفيروس في القرن الثالث بعد الميلاد، في صراع الرومان مع الجرمنت، ولم تنته بالاحتلال الفرنسي للمدينة (1940 – 1955).. وحين أرى الغابة السوداء تطوق المدينة القديمة، قبالتي الآن في القرن الحادي والعشرين، لا أصدق أنني هنا على بعد خطوات من عشرة آلاف سنة من الحضارة، تندس بالضبط في الجهة الغربية الجنوبية لهذه البلدة الصامتة، وأن الأصنام التي تقف هناك فوق أكوام من قبور، كان شاغلوها هنا يذهلون المارة، ويشعلون الروح المثابرة في أركان مخبأ الحياة التى انهال عليها الرمل.
الصباح الحار هو مافاجأنا في أكتوبر غدامس، ذلك لأننا ننسى مبدأ الصحراء وناموسها الذي لايتغير، حارة بالنهار وباردة بالليل، فوقوعها على خط عرض 30.7 شمالاً يجعل قداموس في فرن حقيقي، حرارته تصل 40 وحتى 50 درجة مئوية في الظل.. ثم تنحدر فورما تنحدر الشمس في الأفق، ليمنح الليل البلدة مناخاً مختلفاً، تصل فيه درجات الحرارة إلى 18 درجة مئوية..
النظارات الشمسية والقبعات عريضة الحواف، وأيضا العمامة واللثام كانت مشهداً عاماً للناس الذين يجوسون البلدة منذ الصباح الباكر.. الجابية الكبيرة عين الفرس تتوسط غدامس القديمة..
في مثل هذا الموعد تعج الباحة بالباحثين عن مايلطف لظى الشمس، فيغطسون فرادى وجماعات في الواحة، محدثين جلبة كبيرة، أتصورها كانت في ماضي هذه الواحة الفسيحة صورة مختلفة تماماً، حينما اعتمدت البيوت ذات الثلاث طوابق ما يأتيها من عين الفرس من ماء بمقدار.. وصرف الماء المستهلكة ضمن أقنية صوب المزروعات.. في تقنية شديدة البراعة ومتقدمة عن ذاك الزمن..
تاريخ هذا الماء يمنعني شخصياً من العبث به.. ترى ماذا يحس الغدامسيون تجاه هذه الضوضاء والعبث ..؟
عمي أحمد صانع الأحذية بسوق البلدة القديمة، والذي يجعل من دكانه الفسيح مجلساً لصحبة من مجايليه، يتبادلون الأحاديث وأكواب الشاي الصغيرة والذكريات أيضاً.. يستمر في إكمال عمله على حذاء بساق طويلة.. زخرفته النسوة في البيوت.. لا يزعجه السياح والذين كما يقول يحيون البلدة.. ويساعدونه على كسب رزق ورثه عن جده ووالده..
قرب طاولته الممتلئة بقطع الجلد الملون وخرز وأزرار.. توجد طاولة أخرى صف عليها بعضاً مما على طاولته، قال أن ابنه ورث عنه صناعة الأحذية الغدامسية، وأخرى فساطوية وأحزمة الجلد العصرية بنقوش قديمة..
واللون الأحمر هو الصفة المشتركة لكل ما يعرضه عمي أحمد في فترينة 3 متر، تمتد على طول جدار دكانه، على يمين الزبائن الذين لا يكفون المرور والسؤال عن الأسعار.. ويخرج كل بغنيمته صغرت أو كبرت..
هذا هو مصدر دخلنا قال عمي أحمد لسنة كاملة ننتظر موسماً غنياً لنكسب جيداً.. نسبة لما يخبرني به عمي أحمد عن استيراد قداموس “بلاد الجلود” لهذه المادة الخام الأساسية في صناعاتهم المختلفة من تشاد ومالي والنيجر، فضلاً عن خيوط التطريز وبعض دبابيس الزينة من تونس، تبدو الأسعار معقولة جداً..
أنا أيضا خرجت من دكان عمي أحمد بغنيمتي حذاء قصير.. وحزام جعل من بنطلون الجينز خاصتي تحفة مميزة.. لا يخلو قلبي من فخر صغير ..
النسوة الغدامسيات اللاتي يخيط لهن عمي أحمد والكثير من الصناع أحذيتهن .. لا تراهن الأزقة الضيقة والمتربة، والتي لازالت على حالها بمسطباتها المطلية بالجير على جانبي الأبواب الخشبية المنحوتة بعناية فائقة .. فهذه الشوارع الصغيرة النظيفة والمفضية على بعضها، والمسقوفة في أغلبها، تصنع بأسقفها وقبابها شوارعاً للغدامسيات، اللاتي يرتدين الخف الغدامسي الناعم في تعالٍ يحبه الغدامسيون في نسائهن، اللاتي يملكن شوارعهن الخاصة المرصوفة والمفتوحة مباشرة على السماء.. حيث يتزاورن من أبوابهن الخاصة ويعجبن بفتيتهن بطرقهن الخاصة أيضاً..
حتى في هذا العصر.. وهذا التوقيت لا تقع عينك بسهولة على الغدامسيات.. في حين تملأ التارقيات “غداميس” كما يسمونها، وهي تعني (مناخ الإبل)، يملأن هذا الفراغ الهائل سواء في السوق أو في العروض الغنائية والراقصة.. بأزيائهن البراقة والثوب الواسع أخضر اللون كأنما يعوضن عن محيط الرمل.. وطرحة فضية تغطي الرأس وتظهر مقدمة الشعر.. ووجوههن الجميلة.. التي تنطق بالحذر الشديد ممن يقترب منهن.
بضعة صغيرات تمنعن حينما طلبت التقاط صورة معهن.. بلؤم ابتعدن قليلاً، فيما اختارت صغيرة جريئة أن تجرب ذلك معي، فما كان من باقي السرب الأخضر اللامع إلا الإقبال على التموضع للتصوير، تحت نظر نسوة في الثلاثينيات لم يبدين أي اعتراض أو قبول لحفل التصوير الجاري قربهن ..
أهازيج التارقيات صحبة الطبول ورجالهن الملثمين، بأزيائهم المميزة وعدة الحرب القديمة، كانوا في غاية الجاذبية والهيبة، يحركون أقدامهم وأكتافهم على صوت الطبول، و زغاريد النسوة و همهمات الرجال بالتيفيناغ (اللغة الأمازيغية التي يتحدثها التوارق)، ربما كل هذا سحر خالص في ليل غدامس البارد.. وأنا أفترش العشب القليل والكثير من الإثارة ..
بنى الغدامسيون بيوتهم من الطين المعروف بحبسه الحرارة خارجاً.. وطلوها بالأبيض لطرد المزيد من ألسنة الشمس التي تأكل البلدة دون رحمة.. البيت الغدامسي قليل الإطلالة على الخارج فالنوافذ يختص بها الطابقين الثاني والثالث.. وغالباً هي كوة صغيرة تنفّذ القليل من الضوء، وتركز على التهوية أكثر من وظائفها المتعلقة بالتلصص على العالم .. وتترك مهمة التباهي للأبواب الرئيسية التي تميز الحجاج عن غيرهم ممن لم يستطع إلى مكة سبيلاً.
ساحة الدار وغرفها .. تتباهى بالزخارف والألوان الجريئة وخصوصاً الأحمر، كما وأنها تحتفي بالمرايا لتضيف الضوء للبيوت من الداخل، المنكفئة بكلها على أسرارها التي لم أستطع سبر غور الحكايات التي يدسها الفرش اليدوي والأثاث القليل وزينة العرائس..
ماذا تبقى من زمن قداموس الغني والمثقل بالحروب أيضا .. ؟ كشأن كل المدن الزاهرة في الأنحاء ..غير غابات النخيل التي تطوقها .. وبيوت المدينة القديمة المتروكة من سكانها الذين رحلوا صوب بنايات أحدث منذ بضعة سنين فقط .. ما صنفها كواحدة من أقدم المدن المأهولة بالسكان في العالم من قبل منظمة التربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو).
إذاً ..من لم يمر بغدامس؟ فمن جرمنت، وإغريق، ورومان، وأمازيغ، و أفارقة، وعرب، وأتراك وطليان، وفرنسيس حتى العام 1955.. لذا هي مزيج من كل هذه الثقافات و الأعراق.. وهذا ليس غريبا، فهي ملتقى القوافل جنوب الصحراء الكبرى، والجلود التي اشتهرت بها في سنة 19 ق .م هي ما صاغت اسمها الروماني قداموس (بلاد الجلود).
____________________________________
تصوير: سعاد سالم