محمد الحجيري
حين تشتعل الحروب أو ما شابه في أي بلد، تسارع الأقلام الثقافية إلى إلقاء الضوء عليه. من أفغانستان المعروفة بأدب نساء الباشتون وروائيين كبار كتبوا في الغرب مثل خالد الحسيني وعتيق رحيمي، الى العراق وأدب دجلة والفرات والمقاهي وصولاً الى ليبيا حيث تبدو الصورة أكثر غموضاً من أي بلد. هذا البلد الكبير نكاد نجهل مكوناته، إذ اختصره معمر القذافي بكتابه الأخضر على مدى سنوات، بل جعل الثقافة في الحضيض وبات هو نفسه فضيحة المثقفين، فثمة مجلدات شعرية «عربية» في مدح شخصه «البطولي» ومجلدات أكبر في الإثناء على قصصه التافهة، إضافة إلى عشرات من أنصاف الكتاب والكتبة الذين كانوا يتسوّلون على موائده من القاهرة الى بيروت وصولاً إلى نواكشوط.
لماذا نجهل الأدب الليبي الجديد؟ سؤال وجيه طرحته وسائل الإعلام في الأسابيع الأخيرة، والإجابة واضحة، فالقذافي لوَّن كل شيء بأخضره، وأفكاره الخرافية وأحلامه الهذيانية، لذا لا نعرف إلا أسماء قليلة من ليبيا ولعل أبرزها المفكر الصادق النيهوم الذي (وللأسف) صودرت كتبه في بيروت بطلب من مرجعيات دينية.
النيهوم الذي كان يكتب في مجلة «الناقد» قبل قفلها، اشتهر في مجال البحث في النصوص التراثية والدينية، ولم يتم تجاهل دوره الفكري الريادي كمفكر نهضوي إصلاحي، بل تناوله الباحثون في الفلسفة بمداخلات ثرية تجعل منه مفكراً يطرح أسئلة محفزة على النقاش والجدل. لكنه في رأي كثيرين كان أشبه بمفرقعات وعناوين عابرة وأحياناً غير مجدية.
في المجال الشعري، نكاد لا نحفظ اسماً قادماً من ليبيا، وثمة أسماء خجولة في هذا المجال، وحتى عندما أجرى الشاعر اللبناني يحيى جابر تحقيقاً عن الشعر والقصة في ليبيا ونشره في مجلة «الناقد» أيضاً، أظهر التحقيق أن الأدب الليبي يعيش أزمة تواصل في ظل حكم الكتاب الأخضر.
روائياً، برز بعض الأسماء الليبية المهمة، وفي مقدّمها إبراهيم الكوني الذي كان انتقاله الى سويسرا في بعثة ديبلوماسية حافزاً على انتشار أدبه، عربياً وعالمياً. يقابله الروائي هشام مطر الذي يكتب باللغة الإنكليزية. وإذا قرأنا المشهد الليبي اليوم، يمكن لنا وصفه بين صوتين: صوت هشام مطر الذي خطف النظام الليبي والده، وصوت إبراهيم الكوني المتماهي مع القذافي وصاحب التصريحات الهلامية التي تشبه تصريحات العقيد. لنقل إن إنجاز الكوني لم يقتصر على هذا، بل إنه أخرج الرواية الليبية من قوقعتها المحلية ودفع بها لتكون رافداً جديداً للرواية العربية، لا بل إنه وضع اسم ليبيا في أشهر المنتديات الأدبية العالمية عبر ما حظيت به رواياته من ترجمات في مختلف اللغات، وما حصلت عليه من جوائز وما رافق هذه الروايات من متابعات نقدية وإعلامية.
لكن محنة الكوني الحاذق في كتابة واقع قبائل «الطوارق»، أنه بقي صامتاً طوال عقود على فظائع نظام القذافي، حتى عندما فاز بـ{جائزة الرواية» في القاهرة تحدّث عن الحرية وكأنها لفظة سرمدية مستعملاً الألغاز والأفكار الهلامية. حتى أن الشاعر اللبناني عباس بيضون لامه لأنه لم يتحدّث عن النظام الليبي في مؤتمر الرواية الذي عُقد في القاهرة قبل أشهر، فيومها اكتفى بتقديم تأملات فلسفية عابرة. ولا أحد ينسى أنه كان رئيساً لجائزة القذافي التي رفضها الروائي الإسباني خوان غويتسيلو، موجهاً رسالة الى الكوني يعلن فيها رفضه الجائزة معتبراً «الجائزة مقدمة من الجماهيرية الليبية، التي استولى فيها معمر القذافي على الحكم بانقلاب عسكري عام 1969».
وأضاف الروائي الإسباني: «أنا واحد من قلة من الروائيين الأوروبيين المهتمين بالثقافة العربية- الإسلامية. وقد دافعت قدر استطاعتي عن القضية الفلسطينية، وكنت حاضراً على جبهات النضال لأجل الديمقراطية في العالم العربي… وبعد تردّد قصير، درست خلاله احتمالات قبول الجائزة أو رفضها، اتخذت الخيار الثاني لأسباب سياسية وأخلاقية».
اللافت أن الكوني سرعان ما نفى علاقته بالجائزة، وهذا يبدو مربكاً في تصاريحه مثل النظام الليبي نفسه، فقد نقلت الشاعرة السورية جاكلين سلام بعض الشواهد من حوار مع الكوني (نقله موقع الجزيرة) يبين أنه لم يحتمل أن يسمع بعض الآراء النقدية التي كتبت في هذه الصحيفة أو تلك عن مواقفه وقربه من شخص القذافي وجائزته المرموقة…
قال الكوني: «أستغرب هذه الضغائن كافة… كيف تتحول الضغائن والمكائد إلى إيديولوجيا! هل هناك اغتراب عن الحقيقة أكثر من هذا؟! ويجرؤ هؤلاء الأوغاد على الطعن في وفائي لليبيا… أنا روح ليبيا، أنا ضميرها، العالم يعرف ليبيا من خلالي أنا»، فهو يبدو شبيهاً بالقذافي حين يصف نقاده «بالأوغاد» وتقارن جاكلين سلام مواقفه بخطاب القائد الذي وصف شعبه الثائر ضد أسلوبه في الحكم وإدارة البلاد، بالجرذان والكلاب الضالة، المهلوسين، والخونة.
ذكر الكوني في مكان آخر من الحوار: «أعمالي كلها ضدّ السلطة ليس فقط كمفهوم أخلاقي ولكن أيضاً كمفهوم فلسفي. إذا كان هناك محرض على الثورة في ليبيا في يوم من الأيام فهي أعمال إبراهيم الكوني، التي تصلح أن تتخذ إنجيلاً للثورة». هنا تجدر مقارنة «أناجيل» الكوني الثورية المزعومة بالكتاب الأخضر الثوري الذي ألفه القذافي وصنع له تماثيل في عرض البلاد وطولها.
والكوني بعد تفكّك نظام القذافي بدا «ثورياً»، ومما قاله: «إذا كنت أخذت على عاتقي منذ خمسة وأربعين عاماً رسالة رد الاعتبار الثقافي لوطني ليبيا واستعادته من اغتراب تاريخي لا يستحقه، فإن ما يحدث في ربوع هذا الوطن اليوم، هو خيار تاريخي تكمن حقيقته في رد الاعتبار السياسي الى هذا الوطن الذي اغترب طويلاً على هذا المستوى أيضاً».
هذا غيض من فيض عن أحوال ثقافة إبراهيم الكوني الذي يسيء الى روايته «الطواريقية» عبر مواقفه المتأثرة بالمرحلة القذافية.
هشام مطر
الروائي الليبي الأكثر حداثة هو هشام مطر المقيم في بريطانيا منذ حوالى العقدين، وهو الصوت الحقيقي للواقع الليبي الذي تجرأ على قول ما لا يُقال، لا سيما بعدما اضطر مع والدته وأخيه إلى مغادرة العالم العربي هرباً من تعسّف نظام القذافي. ففي عام 1990 عندما كان مطر لا يزال طالباً في لندن، خُطف والده من مباحث نظام حسني مبارك وسُلم الى المخابرات الليبية لتختفي أخباره بعدها، وقد عمل والد مطر دبلوماسياً في البعثة الليبية في الأمم المتحدة في بداية السبعينيات، لتطاوله في ما بعد حملة التطهير التي قام بها القذافي متهماً عدداً من العاملين في الجهاز الحكومي بالرجعية وخيانة الثورة. لكن الوالد تمكّن من تهريب رسائل عدّة من داخل سجن أبو سليم، تروي ما تعرّض له من سوء معاملة وتعذيب. ثم انعدمت أخباره بالكامل.
تسرد «في أرض الرجال» مأساة رهيبة تنزل على كاهل صبي في التاسعة من عمره يُدعى سليمان، إذ يُعتقل والده ويتعرّض لتعذيب فظيع. بعكس والد هشام مطر، فإن والد سليمان ينجو من الاعتقال ويعود إلى بيته وأسرته لينعم بالحرية التي كان على وشك أن يفقدها إلى الأبد. انطلاقاً من أجواء النظام الوحشي وخطف والده كتب هشام مطر روايته، وهو المولود في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة عام 1970، ويتمحور عمله السردي الأول باللغة الإنكليزية حول رعب محاكمات العقيد لرجال الدولة الذين يتهمهم بالخيانة فيختفون من دون أن يظهر لهم أثر.
يروي مطر في «في بلد الرجال»، ومن خلال ذاكرة طفل، رعب انتظار العائلة مجيء مباحث العقيد للقبض على الأب المتهم بالرجعية والتآمر على الثورة. يعيش الطفل حالة من الحيرة المستمرة بحثاً عن منطق يتقبّله عقله الصغير لكلّ الدوائر التي ينتمي إليها من أسرة وجيران وأصدقاء ووطن، وينجح الكاتب إلى حدّ بعيد في السفر بمخيلة القارئ إلى عقل ابن السنوات التسع وطريقة تفكيره واستنتاجه للحلول المنطقية لما يواجهه مع عالمٍ خارجي وداخلي.
رواية هشام مطر قصة احتمال مرعبة قد تحدث في كل لحظة ولكل شخص طالما أن ثمة سلطة استبدادية في بقعة ما من العالم، وقد وصفها ج. م. كويتزي (الحائز جائزة نوبل للآداب) بأنها: «قصة مؤثرة عن طفل تعرّض باكراً جداً لوحشية السياسة».
حين نقارن بين رواية هشام مطر وروايات الكوني نجد أن جملة واقعية عن الوحشية خيرٌ من ألف كتاب يدلف كلمات سرمدية.
_____________________________
نشر بموقع الحداثة