النقد

عوالم الأصفر: النموذج والحلم وصراع الأسئلة

رواية علاقة حرجة للرواية عائشة الأصفر
رواية علاقة حرجة للرواية عائشة الأصفر

تطفو فقاعات الهواء على سطح الماء، معلنة عن شيء يختبئ في الأعماق، ولن يطول زمن التخمين حتى يتمثل الخافي كاشفًا عن تمظهراته كيفما كانت، لكنه يفضي لاحقًا إلى سلالم من الأسئلة واستفهاماتها «كيف ولماذا»، هذا جزء من مقاربات رواية «علاقة حرجة» الصادرة عن دار البيان للكاتبة عائشة الأصفر، وهي محاولة لوضع الذاكرة في أثر رجعي لمعاينة شرخ وجودي إنساني على بعدين، عام بصوت الراوي وخاص ينهض موزعًا في أبطاله.

تتجلى المقاربة الممدة على جسد الزمن لسنوات عشر في مدينة سرت منذ منعطف 2011 بين ذاكرتين في جسد الشخصية المحورية «جبر»، الأولى أصيلة التكوين والثانية للدكتورة سميرة موسى عالم الذرة المصرية، الآتية من عالم الخلاص المفترض، ولكي يحدث هذا «الماكس»، كان لا بُد من دفعة غرائبية تفرش أرضية النقلة، والسؤال هنا إلى أي حد تفرض هذه القفزة منطقيتها؟ تندر ربما الخيارات في ذلك إذ لا بُد من فقاعة ما كما أشرنا تهز صمت البحيرة فجأة، وكما يصحو كافكا كحشرة، يتفاجأ سعيد أو ليبيتشوفي رواية «الكلب الذهبي» وقد تساقط وبره الأبيض ليصبح الكلب الرجل، ولا تبدو الفنتازيا عاجزة في حوار جبر الذي توسل الشيخ أن يخلصه من العذاب «سأستبدل هذه الذاكرة التي لا تحمل سوى الخوف والبؤس» ص13.

شيفرة الخلاص

يخلق هذا الركام من التفجر المرحلي لحدث التحول فيضا من الأسئلة، بغية فهم طبيعة الحوار الداخلي لجبر المبني على استفهام رئيس بعد سبع سنوات: «لماذا في مدينتي القتل والوشاية والتآمر» ص15 وهو نسخة متناسلة في كوامن زوجته غزالة وأخيه صالح وجاره فضل وأخته لمياء، يمضي كل هذا الدفق تحت مظلة صراع مركب بين جسد جبر وذاكرة سميرة موسى القارة فيه، والتي يفرض إحلالها سؤالًا آخر عن مغزى وجودها؟ إذ تبدو من زاوية ما كمنصة تعاين وتكاشف بل وتنتقد بسهولة وتساءل مآلات فوضى لا تعقل «والدي العزيز أجد نفسي في بقعة أشبه ما تكون على كوكب غير الأرض، بقعة متناقضة وكل ما فيها ممزق، الإنسان والمشاعر والتراب» ص199، وقد يرتفع سقف التشوه الذي ينزع إلى نسف نسيج هذه العلاقة وإحالة التناقض إلى غيبوبة لا تعي معها أنها ميتة، وبذا ينتفي شرط وجودها، إلا أن ذلك مرهون باعتراف ترفضه، وهو سر استمرار العلاقة، غير أن مجال تفاعل ذاكرة عالمة الذرة وسلالم سيرتها يتسع في فضاء السرد ليصبح ربما نصًا يوازي الرواية ذاتها، يربك أحيانا بنية التسلسل، هل نتحدث عن رواية مزدوجة؟

الروائية عائشة الأصفر

مصائر حائرة

يتمدد السرد في الرواية على معادلة صراع الأسئلة الناتج عن لغز جبر، إلا أن الإجابة التي تمثل إلهامًا للشخوص كانت تعبيرًا أيضًا عن رؤيتها للخلاص، وهو شرارة الالتقاء بين فضل ولمياء التي ارتحلت بعيدا عن مدينتها بحثا عن ذاتها الضائعة وتختفي خلف «الكيبورد» باسم «سراب»، مبررة منفاها الاختياري «ليت الدمار لحق فقط الجدران، من الصعب ترميم هتك النفوس»، إلا أن الإجابة بقيت معلقة لدى غزالة المصدومة بزوجها، لتتكفل مجاميع كامل الارتدادات النفسية بصوغ ربما جزء من إجاباتها، وكذا يختفي صالح أسيرا في قبضة المجهول، ويظهر بعقل التهمه التطرف، إلا أن محاولاته للحصول على إجابة أنتجت اللحظة الفارقة ليصرخ «لأجل من نموت؟ لأجل مدن الأسمنت؟ قررت مغادرة الجميع» ص217.

وهي ذات علامات الاستفهام المرحلة والمحورة في خيال فضل الذي حاول التفكير بصوت عال مواجها مرارة المواقف وهو يخاطب سميرة في جسد جبر «هل تستطيعين تحقيق شيء من خلاله، وهل يستطيع جبر أن يكمل طموحك، أعلم أنها علاقة حرجة.. حرجة جدا» ص177.

النموذج والحلم

يحيلنا النص في مساربه لمرادفات أخرى، تكشف الالتباس أو التشوه وكذا مفارقاته الساخرة المختبئة تحت عباءة الوطنية المسروقة بانتهازية «بوشنوارة» أحد شخوص الرواية الذي تحول من تاجر حشيش إلى مرشح يتحدث عن «الرقم الوطني، الشرعية، الهيئات القضائية، مكافحة الإرهاب» ص126، يكافئ ذلك التصور الذي جال في حلم الدكتورة سميرة عن انتخابات الغابة لخلق ارتباط ضمني بين الزيف والحقيقة، بين وصولية بوشنوارة ومعنى أن يكون هناك تغيير، لذلك جاء سؤال جبر لها «من ذا الذي سيحاسب الأسد؟ ومن سيعترض؟ إنه يفطر ويتغدى ويتعشى عليهم؟».

استعادة الصورة

في «علاقة حرجة» أيضا يبني النص تمظهراته السردية على معادلة مفارقات الحلول الروحي والعقلي بين الجنسين «الذكر والأنثى»، غير أن الإيقاع السردي ينتصر لذاكرة الأنثى عبر كشف لوجهها المزق وهي تحاول استعادة شكلها أو صورتها الضائعة، ثم وهي تتجاوز ذلك لتصبح شريكا في فهم ارتدادات زلزال 2011، هنا أقول أن ذلك أحد أبعاد الرواية لا مرتكزها الرئيس.

هوية الأنثى تصبح جزءًا من لعبة الحلول أو الخلاص من الآلام، تلبست البطل الذي أراد الفرار من جحيم ذاكرته ليقع في وحل الصراع بين سيرته وعوالم المرأة التي احتلت كيانه وتتحول الرواية إلى متوالية من الذواكر المتبادلة بين الماضي والحاضر، تحفر في واقع مأزوم، بصيغة مغايرة للنمطية السائدة في التعريف «نص أنثوي»، هي حكايا متعددة لأرواح، رغم أننا سنجد تأصيلًا أنثويا للذاكرة يبدأ من منابت الطفولة عند حكايا الجدة، ثم أسطورة المرأة الطيرة التي تقتل الأولاد، انتهاءً ببواقي الذوات الممزقة.

مقالات ذات علاقة

قراءة لقصة العجوزان للأستاذ محمد المسلاتي

عبدالحكيم المالكي

التَّذَوُّقُ الأَدَبِيُّ وَإِبْدَاعِيَّةُ التَّلَقِي

خالد السحاتي

بدايات الشعر في ليبيا

عادل بشير الصاري

اترك تعليق