فرج الترهوني
فوجئتُ بإصرار الناشر (دار إلكا) Ali Bader على الاستمرار في توزيع الرواية، فهي تُعرض حاليا في معرض الرياض للكتاب، بالرغم من اعتراضي كمترجمٍ على عدم تعريض الرواية للمراجعة والتدقيق اللغوي من قِبل الدار، ومن ثمّ من طرفي كمترجم، لإجازتها بصورة نهائية، وبالتالي أعتبرُ نفسي براء مما شاب هذه الرواية الرائعة من عيوب فادحة…
كنتُ قد كتبتُ مقدّمة الترجمة للرواية، لأجد أنها غائبة عن النسخة التي وصلتني لسببٍ لا أعرفه، وهي كالتالي:
مقدمة الترجمة
(حَظِي هذا العمل الروائي المتميز بترحيب واسع عند نشره. فلغةُ الكاتبة راقيةٌ وتمسّ الواقع بشكل لصيق، وهي التي عُرفت بتطرّقها في عديد أعمالها الروائية إلى قضايا شائكة في منطقة الشرق الأوسط، البيئة التي شهدت نشأتها الأولى، بكل إشكالاتها الاجتماعية والدينية والسياسية، وخاصة ما يتعلّق منها بمعاناة المرأة من انتهاكات لكينونتها كأنثى ولإنسانيتها بشكل عام، في بيئة تشهد مع مرور الوقت تضييقا على الحريات العامة واستهدافا سلبيا للإناث. ولم تتوان فادية الفقير في مجمل أعمالها عن لفت الأنظار لمحنة النساء في هذه المنطقة من العالم.
أعترفُ أنني شعرتُ بالحيرة عندما تصديت لترجمة هذا النصّ. ومصدر حيرتي تعلّقَ بكيفية استقبال القارئ العربي لنصّ روائي يتضمن الكثير من اللغة المحكية “العامية”. فبعد قراءة متمعّنة رأيتُ أنّ الكثير من الحوارات التي تجري في بيئة الراويةِ “مها” ومحيطِ قريتها “حامية” لا يجب أن تكون إلا كما تخيلتها الكاتبة في نصّها الأصلي، وهي التي لم تتردد في استخدام العديد من التعبيرات والجُمل في ثوب إنكليزي، ولكن المصدر العربي وصياغة الجمل والتعبيرات لا تخطئُه العين، وبالتالي رأيتُ أنّ تفصيح مثل هذه الحوارات سيؤدي إلى فقدان المعنى وغياب الحميمية عن شكل ومضمون محطات مهمة في الرواية. وحتى الرّاوية الثانية “أم سعد” التي من المفترض أنها امرأة مدينية اشتمل سردُها لمراحل حياتها على الكثير من اللغة المحكية. ربما كان التحدي هو في محاولة استخدام لغة محكية “بيضاء” تقف في المنتصف بين سرد وحوارات عامّية لا يجد القارئ صعوبة في فهمها، وفُصحى يتعيّنُ أن تكون السائدة في رواية تتوجه إلى القارئ بالعربية. كذلك تعلق الأمر الثاني بنقطة بعينها يتحوّل فيها النص من العامية إلى الفصحى وبالعكس. أرجو أن يكون قد حالفني الصواب في هذا الجانب، الذي ما كان ليتم دون معونة الرائعيْن براءة العجلوني ومروان العياصرة.)
“مقتطف”
مهــــا
الأمرُ يتعلق بتوأم روحي ‘حرب’. يا لهذا الجبين المرفوع. دليلُ العزة. كان يقول لي، “أكثر شي بحبه فيكِ هالعيون البنّية اللي بتبرق.” عيناهُ عسليتان. وتباشير الفجر المُغبّش تداعب أسقف بيت الطين، بينما صوتُ الإمام رجب القوي ينادي لصلاة الفجر ” اللهُ أكبر” وأبي الشيخ نمر، لا يزال نائماً يحلم بأُمي مليحة.
“مها، يا عيوني، اشربي الحليب.” اعتادت أُمي أن تقول لي.
عندما ضغطتُ حلمات بقرتنا ‘حلّابة’ تدفق الحليب فوق يدي. وكان ’حرب‘ واقفاً خلفي مُباشرة فاختلطت رائحةُ المسك المنبعثة منه، مع رائحة الحليب الطازج. ودون أن أرفع رأسي، أو أتوقف عن الحلْب، قلت: “شو بتسوّي هون؟ لو شافك أخوي دفّاش بيدْبحنا.”
” صباح الخير، يا مُهرتي الحلوة.”
كانت عيناه تمازحاني وتتحدياني. فابتسمت.
زحفت الشمسُ نحو السماء. بينما أوراق الشجر ترتجف، والأضواء توَمض. توقف حرب عن الابتسام وقال، “تمنيتْ لو أقدرْ أقدّم لك ميّة جمل، وعلبة ذهب، وعشر أمتار من الحرير الهندي الأصلي.” أخفض رأسه، ودثّر كتفي بالشال الأرجوانيّ البرّاق، وضعا يده على رأس خنجرهِ، ” مها، بدي أشوفك الليلة.”
” انت انجنّيت؟ طلعة البنت بتالي ها الليل جريمة، وصيْبة الطلقة غير بين عيوني تكون.”
” ما عليكِ أنا بظهرك بحميكِ، يا عيون المها”.
” لا.”
” ودّي ياكي بالحلال.” جذبتُ الشال بقوة حول نهديّ، وهززتُ رأسي. النساء اللاتي أحببنَ أخي دفاش وتسللنَ في جوف الليل للقائه كنَّ حمقاوات، غبيات، خاطرنَ بشرفهنّ من أجل الحب. هل يعتقد حرب أنّ مها، ابنة مليحة، حمقاء أيضاً؟
وقت الفجر تقريبا. تلاشت صيحات الرجال في الخارج وأدركتُ أنني في أحضان حرب. استلقينا بهدوء بجوار بعضنا فوق الفراش. مرّر أصابعه خلال شعري وفككّ ضفائري. نزعت عصابة رأسه وأمسكت برقبته. كان الصدام مع العشيرة قد جعلنا أقرب لبعضنا البعض. عندما تحرّر شعري أخذ يتراقص فوق كتفي، ومرّت أصابعه الرفيعة فوق عيني، وأنفي، وخدي، وأذني، ثم حطّت فوق شفتي. الإحساس بالراحة والمتعة، والشوق العارم هاجم جسدي من كل الاتجاهات. لكنني عذراء ولا يجب أن تستجيب العذراوات لرجالهن. فقد يظن أنني امرأة منحلّة.
قبّل الجزء الأيسر من فمي، ثم الأيمن، ثم وسط شفتيّ المرتجفتين. لا شيء يشبه ذلك، ولا حتى تقبيل الحنّاء، والحصان، أو البرتقال. لعن الله العجائز وكل القوانين القديمة. اقتربت منه وأحطته بذراعي.
” قلبي يفرح بشوفتك وينط لمّا اكحّل عيني بملقاكِ.” قال.
” الفرسان ما تحب وتعشق النسوان.”
” أنتِ بس، يا مها، رفيقة روحي.”
كل كلمة قالها، وكل حركة قام بها، منحتني مزيداً من الحرية والسعادة. بدأ جسدي يخف ويخف حتى صار مثل ريشة نعام. “حرب، عندي طلب.”
” طلباتك أوامر بالنسبة إلي.”
” ودّي انروح عالبحر الميت؟”
” أيوه.”
” هلّا؟”
رفع شعره عن وجه وقال، “الوقت متأخر!”
” المكان مو بعيد،” قلت راجيةً.
داعب الهواء الدافئ وجهي وشعري المرسل، وأمسك حرب بيدي. كل القرية غطت في النوم عدا نافذة مضاءة أو اثنتين. لا بد وأنهم مواليدٌ يجري إرضاعهم. شممتُ عبق أزهار البرتقال، وامتلأت رئتي بعطر السعادة، وتمشينا على ضفة نهر الأردن التي كانت مغطاة بالكامل بأشجار الحمضيات. تركتُ صندلي في بيت حرب ومشيتُ حافية فوق التراب البارد. بينما هديل الحمام يتلاشى في صوت جريان المياه المستمر. هل أنا حقاً هناك مع حرب؟ ارتعشَ جسمي، ففرد عباءته، قرّبني إليه، ووضعها فوق كتفي. جسده الدافئ الملصق بي حسّسني بالأمن والسلام مع كل العالم. بمن فيه أخي دفاش.
تذكرت اضطرابي عندما تقدم حرب لطلب يدي بعدما اخترتُ ألا أقابله. فقد اعتقدت حينها أن حرب مثل دفاش.
” بتشبه أخي دفاش؟” ضحك حرب وكأنما تمكّن من رؤية الشك الذي في رأسي.
شدّد قبضته حول خصري وقال “لا”.
” لكن طلبتْ إيدي بعد ما رفضت أقابلك لحالنا.”
انطلقتُ ضاحكة وغدوتُ نحو الماء الفضي لأملأ خياشيمي من هوائه الملحي ولاستنشاق رائحة الأحماض والمعادن الحادة. هذا الماء ترياقٌ لكل أمراض الجلد. مررتُ على شعري بيدي، بينما بدأ حرب يفكّ حزامه الذي يحمل الخنجر وغمد السيف ثم رماه أرضاً. جلست على صخرة سوداء مسطحة وراقبت زوجي الذي فك أزرار ردائه وخلعه ليفصح عن صدر داكن اللون، فأخفضت بصري وركزت نظري على الحصي المغطاة بالملح، لكن الدم اندفع إلى وجهي عندما أدركت أن عينيّ أرادتا رؤية المزيد منه، وأن أذنيّ ترغبان في سماع أنفاسه، وأن أنفي يتطاول ليشم جسده المضمّخ بالمسك.
ارتعد جسدي وهو ينزع عني ثيابي. ذهب الحجابُ، وثوب أمي المخملي، والصدرية، والسروال. ثم حضنني بقوة، ويدا بيد غمرنا جسدينا في الماء الدافئ الذي سخنته أشعة الشمس طوال اليوم. أيدٍ تمسك ببعضها، تتساءلُ، تقاوم، وفي النهاية تستسلم. ثم قبّل جبيني. كان الماء ساكنا، ولم تتمايل النخلات، وحبست السماء أنفاسها. سبحتُ مقتربة من زوجي، ووقفت، ثم قبّلت جبينه. لن أنصت إلى النصيحة القديمة، فجسدي يتفجر بالسخونة وبالحياة. كلا، لن أتبع نصيحة أمي. سامحيني يا أماه. كانت النظرة في عينيه تحمل الاحترام والاستمتاع. إذًا هو لم يحتقرني لأنني قبلت جبينه. يا نساء حامية، معيشتكُن خرا، وقفزت نحوه لأستقبل كل قطرة من ماء البحر.
” أنا مرْتك.” همستُ له، وارتعد كل جسمي وأنا أستقبله. ناديتُ اسم أمي، وقوّست جسدي، ثم فردته. غمزت النجوم، وازداد اتساع الأفق فصار لا حدود له.
” أنتِ مرتي،” قال لاهثا، وهو يضمني بقوة.
” أنا مرتك،” ردّدتُ، بينما أصابعي مغروسة في ظهره
” أنتِ لي،” قال بإصرار.
” أنا إلك،”
جبال حامية، والصخور السود، ونبعُ المياه المعدنية، ومن خلفهم القدس العالية، كانت كلها شاهدة على ولادة حبنا. عاد القمر إلى عالمه مرهقاً وسعيداً. لقد أحببت هذا الرجل الذي ينشّف جسده المبلول بقميصه القطنيّ. سأحميه، وسأقبلُ حمايته لي، سأكون امرأته حتى تعود الروح إلى بارئها، ثم سأل حرب، “أنا جالس على صخرة وأنتِ على صخرة ثانية، تقبليني أكون رفيق إلك؟”
” آه.. بقبل،” وضحكنا. تحوّل البحر إلى سحابة من الضوء اللامع في وسط الضباب الغامض متلهفةٍ لصعود جبال القدس، ألوانها تجمع بين الذهبي الفاقع والفضي المتلألئ، والبني الغامق مع ضوء أبيض بهيج. أمسك بوجهي وأخبرني بأنني المهرة العربية التي سترافقه حيثما ذهب، وعشبة الدواء التي ستخفّف آلامه، ضحكتُ محاولة تفادي عينيه، بينما حبّات الملح الملتصقة بشعر صدره تلمع في الضوء المتسلل. تلطخت يداي بالأملاح والمعادن بفعل السباحة في البحر وممارسة الحب فيه، والبكاء فيه، والاستسلام له، بينما رمل البازلت، والجِمال الصّبورة، ونهر الأردن الذي يصب مياهه العذبة في البحر الميت كلها تشدو على ألحان حبي.
أيقظني صوتُ امرأة تطلق سباباً. لكن سرعان ما انزاح ضباب العقاقير وصفا ذهني عندما رأيتُ الجسم الرماديّ الرفيع في كومة الثياب البيضاء. “اسمي أمّ سعد،” صاحت في الممرضة ’سلام‘ وفي الحارس ’كوكاش‘ الذي دفعَتهُ قائلة بصوتٍ غايةٍ في النعومة حتّى أنّ بإمكانه أن يرفعك في السماء. “الله يلعن أبوكو جايبني عند المجانين، والله لأدبحكو،” ركلتْ كوكاش، ثم تدحرجتْ على بلاطِ الأرضيةِ مثل قنفذ. صرختْ، وصرختْ، وفجأة التقت عيناها الصغيرتان بعيني.”أيش هاد؟ بدويّة مقرفة؟ مو شامّين ريحة الخرا! أنتو بتناموا مع الغنم.”
لم أفتح فمي ولم أنطق بكلمة واحدة. كنتُ أعلم أن قلب أمّ سعد يكتوي بنيران الفراق، ومهما قالت عن البدو فلن أغضب منها، وبدلاً من الردّ عليها بالصراخِ وضعتُ يدي على فمي، وابتسمت.
” أنا بنت المدينة، من عَمّان، وما بشاركش حدا في الغرفة مع بَدويّه تضّحكْ، متل الهبل.” انزلقَ غِطاء رأسها الورديّ عنها، فأفصَح عن شعرٍ رماديّ مرسل. بدأت تدوس على محرمتها وتشتمُ أب الممرضة، وجَدِّها، وجدَّ جدّ جَدّها. فسحب الحارس كوكاش نفساً من عقبِ سيغارتهِ ثُمّ حكّ شعرِه المنكوش وفركَ عينيه الناعستين. صبرَهُ بدأَ ينفَذ، فدفع جسدَ أمّ سعد الهرمَ فوق الفِراش وربط ساقيها ويديها إلى أعمدة السرير. أطلقت سلامُ ابتسامة ملائِكيّة وغرزت إبرتها في عروق أمّ سعد، التي جفلت وارتعدت ثمّ غرقت في نومٍ مُظلمٍ عميق.
قتل الإنكليز ‘حرب’ تَوأم روحِي، الذي ربتت يده الحانية فوق شعري غير القصير وغير المضفّر وقال: “لا تبكِ وحياة جدتك صبحا إلاّ أسعدك”. لا بد أن أوقف سيل الذكريات هذا،
” وين رايحة؟” أنا هائِمة، أتبعُ قلبِي. انظر أين أوصلني قلبي، إلى نهاية الرحلة التي لم تخطر على البال. إلى مستشفى المجانين.
بعد ساعاتٍ، وعندما كانت الشمس تعود إلى عالمها، تململت أمّ سعد في فراشها وبدأت تئن، خرجت أصوات خافتة من بين شفتيها المزبدتين، وكأنّ قلبها ينوح.
أخيراً فتحتْ عينيها وحدّقت في وجهي، ثم بدأت تنتحبُ مجَدداً. وبصوت في نعومة وفخامة وكثافة المخمل قالت: ” سامحيني يا خيّتي.”
فركتُ جبيني وقلت، “على ايش أسامحك، ما سويتي شي.” قلبتْ رأسها من جانبٍ لآخر واستمرت في البكاء. فغطستُ قطعة ضماد في كوب ماءٍ بارد ومسحتُ بها وجهها ويديها وساقيها.
لو امتلكتُ لفات ولفات من ضمادات الشاش ما استطعتُ تجفيف دموع أمّ سعد في أول ليلة لها في مشفى المجانين. واصلتُ المسح والتجفيف إلى أن تسللت بهرة الفجر إلى غرفتنا الباهتة، وخلدتْ هي إلى النوم. كان فراشي رطباً وبارداً فغطيّتُ نفسي بالملاءة من رأسي حتى قدميّ لأجلب بعض الدفء لأطرافي المتجمدة. كم أشتاقُ للمسة يد حرب، وإلى أنفاسِه وصَدرِه الدافئ.