من أعمال الفنان التشكيلي علي الزويك
قصة

الدهليز…

1

… يجب أن آخذ نفَساً.. إنَّنِي ألْهَث.. منذ الصباح وأنا أحفر.. أيّ صباح؟ كائن مثلي يستوي عنده الصباح والمساء.. يُسَمُّونَنِي (بُوعَمايا).. عينا الأعمى تنظران إلى الداخل.. الظُّلْمة مُجَرَّد قصورٍ في الرؤية.. لا إحساس بالزمن إلاّ من خلال دفء الشمس.. أو بَرْد الليل.. أو حركة العالَم الفوقي وهم يدوسوننا.. على الرغم من أنَّهم يَمتلكون عيوناً.. إنّهم يُثقِلون الأرض.. ثقل الكائن الذي لا يُحْتَمَل.. هل هذا هو قَدَرُنا؟ نفترش التراب ونلتحفه ونتوسَّده أيضاً.. الْحَفْر.. الْحَفْر.. ولا شيء غيْر الْحَفْر.. لو تحوَّل الْحَفْر إلى حَدَثٍ أولِمبِي لَحَصلتُ على ميدالية الْحَفّار الأَوَّل!

 ZWIK_04

2

… لا أعترف بأيّة حدود.. أحفر في أيّ اتِّجاه يروق لِي.. أُكَوِّم التراب في كُدْوَة فوق الأرض.. لأُعلن عن وجودي.. لأقول بأنَّنِي أكثر الْتصاقاً بالتراب.. بالطِّينة الأولى.. في بعض الأحيان أجد جذراً فأقضم منه وأمضي.. أو تعترضنِي صخرة فأدور حولها.. أمّا قواعد الإسمنت فهي ألعن ما يعترض طريقي.. تستعصي على مخالبِي وأسنانِي.. فأحفر إلى الأسفل.. أهبط.. أنحدر.. البشر يُقيّدون بيوتَهم بالأرض.. يربطونَها.. ينسون أنَّهم سيدخلون نفَقاً مُظلِماً كنَفَقي.. دروبِي مُتعرِّجة.. أسيْر على غَيْر هُدَى.. لا أملك خارطة.. لكنَّنِي لا أخطئ رائحة الأنثى ولو كان بينِي وبينها جبل.

3

… طال هذا السرداب وتعرَّج.. في كُلّ يوم أحفر نفَقاً جديداً.. حتَّى إنَّنِي لا أستطيع العودة في هذه المتاهة إلى نقطة البداية.. يبدو الحفر في كثير من الأحيان حاجة في ذاته.. أُحِسّ بقوّة خفيّة تدفعني إلى التوغُّل.. جائع إلى شيءٍ ما.. لا أعرفه على وجه التحديد.. حياتي كُلّها مُجرَّد بحث.. لكن بَحْث عن ماذا؟ أحفر فراغاً لا ينتهي.. فراغاً يَمتدّ خلفي كُلَّما أوغلت.. كائن مثلي لا يُتقِن شيئاً سوى السير في دروب ملتوية ينحتها بأظافره.. وصفي بأنني أعمى ليس دقيقاً.. فأنا لا أمتلك عينين أصلاً.. أنا أنف وأسنان قاطعة ومخالب مُدبَّبة.. آلة مُعَدَّة للحفر.. النفَق الأهمّ لَم أحفره بَعْد.. أحياناً أتساءَل: ماذا يتوجَّب علَيَّ أن أفعل؟ يَبْرق هذا السؤال في ذهنِي إلى درجة أنَّني أتوقَّف عن الحفر.. عملي محفوف بالمخاطر.. قد أدخل فجأة جُحْرَ الأفعى.. أو تنبش ملاجئي الثعالب.. أحياناً تندلق عليّ قاذورات الإنسان.. أمرٌ مُحَيِّر أن نكتشف بعد كلّ هذا العناء أنَّ ملاذاتنا غير آمنة.

4

ماذا يفعل مخلوق لا يَمْلك سوى أظافر موحِلة؟ وحاسّة شَمّ في دهالِيْز ملوَّثة؟ ما الغاية من وجود كائن أعمى لا يملك سوى الانزواء تحت الأرض؟ ألا تكفينِي ظُلمة العَمَى؟! في بعض الأحيان أُفَكِّر في فتح كُوَّة نحو السماء.. ليتني أقدر أن أحفر نَفَقاً إلى الأعلى.. عيب السماء أنها بعيدة أكثر مما ينبغي.. لا أستطيع لَمْسها بأظافري.. حتَّى إننِي لا أتمكن من شَمِّها.. تُرَى ما رائحة السماء؟

5

بدأتُ أشمُّ رائحة الأنثى من خلال مسامّ التراب.. أين أنتِ أيَّتها الْمَوؤُدة.. نحن الأحياء الْمَقبورون.. ليحفِرْ كُلٌّ مِنّا من جهته.. لا لقاء بغير حَفْر.. احفري قبل أن يهطل المطر فيعيقنا الوحل.. ما بَيْن غَيْمَتَيْنِ وقتٌ مُستقْطَعٌ للصَّحو.

6

… ما هذا البَلَل؟ لَم يعُد ينقصنِي سوى المطر.. الآن سأغرق في الوحل.. لكن لا بأس.. من إيجابيّات المطر أنّه يُسَهِّل الْحَفْر.. إذا أقبل الشتاء.. لم يكن الربيع بعيداً.. أين أنتِ؟ أسمعكِ.. أسمعكِ.. أسمع مخالبَك.. لا تتَّجهِي يَمِيناً.. إلى اليسار قليلاً.. أمامك مباشرة.. أشمُّكِ.. الوحل يتحرَّك.. أنا أحفر أيضاً.. وأرتعش.. أنا الذَّكَر الوحيد الذي يشقّ الأرض بأظافره من أجل أُنثاه.

7

… أخيْراً! طال انتظاري لهذه اللحظة الْمَحْمومة.. أستبشِرُ بالمطر في هذه الصحراء الْمُظلِمة.. يُبَلِّل روحي.. أنتشي برائحة الثَّرَى.. تعالي نقِيْم عرسنا في الظلمة.. نَهاراتنا بغَيْر شَمْس.. زمَننا بلا فواصل.. عُزلتنا أبديّة.. نفَقنا ضيِّق.. مُتعرِّج.. مُعْتِم.. مُجرَّد ثُقْب أسود.. لكنَّ أرواحنا تُضيئه.. كنتُ على يقِيْن من وجودكِ في آخر النَّفَق.. أنتِ أيضاً مقرورة وترتعشيْن.. نحن الآن نتمرَّغ فوق سريرٍ من الوحل.. مَن قال بأنَّ الرومانسيّة قد ماتت؟ أستطيع أن أقول بأننا الآن نَلْمس السماء.

***

(2006)

مقالات ذات علاقة

قناص

خيرية فتحي عبدالجليل

اللّعنة

محمد المسلاتي

تـسـوق

إبراهيم دنقو

اترك تعليق