1
“المحافظة على الإستقلال أصعب من نيله “
أ
منشور سياسي مكثف لمشروع سياسي مستقبلي أطلقه الملك إدريس، رحمه الله، صبيحة الاحتفاء بالاستقلال، منشورٌ مُحكم باطنه خلاصة كفاح طويل وملحمة تاريخية ما كان ينبغي القبول بالعبث بها أو التغاضي عنها، وظاهره دعوة للخوض في بناء الدولة، رُددت كلماته كثيراً في منسابات مختلفة دون مراعاة حكمة النهج السياسي الكامن فيها، صدرت عن حكيم لم يتماهى مع السياسة بقدر تماهيه مع المثل العليا والإخلاص لليبيا، وهو منشورٌ ظاهر بيّن، وظاهرٌ ايضاً وبيّنٌ فيه مدى الفشل في اتباعه من قبل المجتمع الليبي.
ب
تناسينا قوة الحدث وخدمته لفكرة القدوم على حياة جديدة ناضجة مزدهرة وبناء ” الدولة الحديثة “، ومن حيث لا ندري ذابت وهامت وغاصت في عيون الضباب إلا من تذكر لها بولع في مناسبة عيد الإستقلال بالفاظٍ تمجيدية محشوة برنين الإفتخار تتجافى عن الواقع لكي نظل نبتهج بها بما يلائم عقولنا عند تذكرنا لها دون الانتباه. إلى معارج الهلكة والتدمير جراء عدم اتباع مراميها.. وتأكيداً لمقولته هذه قال الملك في مناسبة أخرى تعرض قبلها للاغتيال: “ونحن لا نعتبر أنفسنا إلا فرد من أفراد هذا الشعب لايهمه غير مصلحة الشعب ومستقبل البلاد”.
ج
وإنْ أرهقت السنوات الملك، فما كان له في تلك السنوات ما يلهيه عن الشعب و ” مصلحة الشعب ومستقبل البلاد ” فقد كان قادراً على الإلهام في ميدان السياسة وكأنه كان يُدرك بحكمته اغفال التأمل فيها من قبل الشعب ذهنياً وسياسياً بل والعجز على اتباعها كفكرة حيوية مستقبلية وفكرة سياسية ملحة، فهل كان الملك في مقولته غير المُبهمة الدقيقة التعبير والتي لا يخالطها الغموض يلمح ولا يصرح مما كان يخشاه على هذا البلد مترامي الأطراف من الضياع والتشرد والتيه؟
2
نسيانٌ أم خيانةٌ؟
منذ تلك اللحظة ، كما يبدو وإلى الغد والذي يلي الغد وضعنا نحن الليبيون اِرادياً شيباً وشباباً بيننا وبين هذه الحكمة الفياضة حجاب سميك بدرجة تمردية بارعة في عدم الحرص على مستقبل البلد ، أو أننا كنا نريد غير ما كان الملك يريده للبلد ، وعلى هذه الشاكلة نعكف على عقولنا زمناً و لا نذكرها إلا في ساعات نشوة طعم خمرة الماضي و”كؤوس النصر” وعشق المبالغة في نسج الخيال الإنشائي من كلمات والفاظ وعبارات تميل إلى الدعاية نزين بها صفحات “الفيس بوك والتويتر” المتناثرة بين هشيم الريح ومخاتلة الأنترنت المذهلة والأستخفاء وراء القلق ليطمسها الزمن وتتلاشى تلاشي قطرة ماءٍ رعناء فوق قطعة حجر صوان صلدة ، فقد غدت في آخر المطاف مقولة انشائية يتسلى بها مُردّديها على غير ما أرادها الملك حيث صار لا نفع منها إلا التهليل و الإغفاء على غرار احياء ذكرى ميلاد دستور 1951 في الأيام الماضية .
3
وأد طموح العبارة
أكان الملك يحذرنا؟ فكلمة المحافظة في سياقها في مقولة الملك قللّنا من شأن معانيها وقوتها واهميتها ولم ننتبه إلى منحتها الفياضة وبركتها الجليلة فمرّت من فوق أذهاننا مرّ السحائب وغدونا نعدو نسابق ظلنا في طريق غير معبدٍ وتركنا الأمور تسير حسب التساهيل الغيبية ، فلا خطة او تخطيط، ولم يكن لنا رؤية مستقبلية كمفتاحٍ لتأصيل معاني هذه الكلمات ، ففشلنا في بناء دولة ” حديثة عصرية” بالفعل لها وجود وتأثير واستمرارية تراكمية من جيل لاخر ، فلم يتوجه طموح العبارة في عقولنا منذ أنْ خاطبنا الملك بها و لم نتقن التبصر في معانيها فوقعنا في التخبط والفوضى والتناحر والتزمت وفي حلقة مفرغة من العنطزة والفهلوة والشطارة والتشرذم والتشتت والتفنن في أصدار الكتب عن ” محطات تاريخية ” و مذكرات سياسية وتخليد شخصيات سياسية تتراوح بين الشبهة والحيرة والتي لم يعد لإنجازاتها المتشبهة بالحديثة أيما وجود وذلك على نحو مخل بالتاريخ وبهذه الشخصيات ” الأسطورية” ذاتها لما فيها من هوس التمجيد العشوائي والتملق غير المجدي ، بمعنى آخر فما الذي تبقى من قيمتها السحرية وما نتائجها الفعلية؟
4
وضوح الكلمة
الملك كان واضحاً وكلمته لا تحمل غاية مكروهة ولا تدليساً سياسياً، أراد منا أن نتحمل مسؤولية أن نتماسك كـ ” شعب” واحد ونتقاسم البلد الواحد بروح التعاون والمثابرة والجد والحق والصدق، فالمحافظة على الاستقلال تستدعي – مبدئياً- الشروع في بناء ” الدولة المدنية الحديثة” من باب برد اليقين، وعدم الاحتفاظ على الاستقلال إنْ هو إلا قرين العجز الواضح في عدم القدرة على بنائها. فعند التثبت نرى أنّ الإستقلال حسب هذه العبارات لم يكن مجرد حق تمّ اكتسابه عبر كفاح طويل ومرير وحسب، ولكنه شرف مقدس ينبغي الحفاظ عليه بسبل التفكير الجاد وإنعام النظر وجلاء البصيرة: فيا للكارثة، فلم نحافظ عليه لشطط نزواتنا الفردية وغياب الرؤية العامة رغم أننا امتلأنا بالإطمئنان والتفاؤل في سبيل أن نرى ليبيا كما نراها الآن.
5
مسؤولية أشمل
المحافظة على الإستقلال – حسب اعتقادي – لا تقع على كاهل السطات الحاكمة ولا على البرلمان ولا على القضاء وحسب، أي لا تقع على اكتاف السلطات السياسية وحسب، بل تقع على عاتق المجتمع بأسره الذي غدا بعد الاستقلال حراً ومسؤولاً، وتقع على عاتق الفرد في محلته ومدينته وفي وطنه بشكل عام وفيما غاب عنا ثقافياً من تحريره من عقال العقل إلى ولوج باب المستقبل بمتراس الإستقلال والحفاظ عليه.
6
أين ذهبت حقبة الاستقلال؟
ولكن حقبة الإستقلال نسفت هذا المنشور السياسي ونهجت نهجاً مناقضاً لرؤية الملك ولم تسعَ شبراً واحداً للتوجه بالبلد نحو بناء ” دولة حديثة عصرية”، وإنما وضعت الدستور في غرفة مظلمة وجعلت من ” النظام ” نظاماً عشائرياً قبلياً يستند على وشائج القربى وابناء العمومة وأمزجة صلات الرحم وأخواتها تنفيذيا ً ، أما اشتراعياً أي برلمانياً فبالإضافة إلى ما جادت به السلطة التنفيذية فقد نهج البرلمان نهجاً اديولوجياً و ” قوميا” ولم يفق من الصدمة الاستعمارية وتغلبت ميوله الذاتية على حاجيات مجتمعه التاريخية فخاض معارك عنيفة مع الحكومات ونسي بناء الدولة والهدف من الإستقلال .
7
سلطتان
كلا السلطتين بشاهدة السلطة القضائية أهملتا كالشيء الواحد باستهتار منشور الملك الواضح: ” المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله”. كما كمجتمعٍ تجاهلتا الدستور والتعامل به وغابت عنا ضرورة اتباع مقولة الملك ، سلطاتان استمرتا في التخبط والتنطع والتنافس غير المجدي في تسجيل المواقف والمد والجزر وعدم تجنب الصدام وعدم القدرة على التأليف بين المتبينات مع الإشباع الوهمي للرغبات ” القومية ” والرغبات العشائرية والقبلية في اصرار وتعنت لا تحمل من قوة العزم والتبصر في شأن البلد ومشاكله وتحدياته شيئاً ، فلم نثق نحن أهل ليبيا الذاكرين لحقبة الاستقلال ” الزاهرة” واهمين وهماً متعالياً يصدر عن ذهنية الغلوالمزورة هذه الأيام دون أن نلتفت إلى أنّ عهداً لا محالة قادماً يحمل معول نسف منشور الإستقلال في عزّ الصيف.
8
“بشائر يا ليبي”
أستمر ذلك التخبط والتعنطز بصورته النرجسية إلى أن استيقظ البلد على بيانٍ مغمورٍ ؛ صحبة طواف الوداع الأخير لعهدً نسي مستقبله وطفق تطويه المفازات تعجلاً نحو نهايته على يديه الكريمتين ، بيانٌ صدرعن ملازمٍ مجهولٍ مدغدغاً بكلماته المألوفة حينها في قاموس ايديولجيات العروبة مشاعر الناس – وبالذات كتلة البرلمان المعارضة المتماهية مع طراز ذلك البيان و التي سيكون بعض من عناصرها المخضرمين ، فيما بعد ، من دعائم شرعية ذلك البيان- وذلك في صبيحة أول يوم من سبتمبر في ساعة التخييل والتغني ، بيانٌ ظهر في خفية مسح بذهنية عسكرية مخاتلة بيانَ صبيحة يوم الإستقلال، وحتى لا يتبقى شيء من تلك الحكمة هذه المرة على الصعيد اللغوي والبلاغي فقد تلا البيان ” الثوري” لاحقاً اهزوجة مضطربة مُبهمة كناية في ذكاء ساسة حقبة الإستقلال وانجازاتهم القشرية حيث ضرب في لحظة عاجلة الخيام حول السلطة السياسة المستهترة حينها بما كان يمرّ به البلد من تخبط واتساع الهوة بينها وبين الناس وذلك في الهواء الطلق : ” بشاير يا ليبي بشاير … والشعب ورا التورة ساير “.
9
” مركب ثورتنا”
وراح الإبداع يتداعى بصحبة اهزوجة أخرى تسبح في الخيالات :” شُرْقت شمس التورا علينا بالحلم اللي اتمنيناه ” ومع تعمق الإحساس نحو التغيير والسحر والتعجب انتظرنا إلى أن قَدِمت في موكب رهيب بعد انتظار طويل لها ولأشرعتها ” مركب ثورتنا” قادمة من وراء الأفق دون التمييز بداهة النار من الدخان ، قادمةً بأشرعتها الخفاقة باهزوجة ترتطم كلماتها بالموج المناور في حشا الكلمات : ” على شطّ الحرية رست مركب ثورتنا … بعد أمواج الرجعية قاومنها بهمتنا” والتي لم تكن تخلو من معنى الإنتقال من عصر إلى عصر ستزول حيويتها فيما بعد .
10
” على دربك طوالي”
واستمرت ليبيا مبتهجة عزوفة عن حكمة الإستقلال متجاهلة لها في غبطة وسرور تسير على نهج ” على دربك طوالي ..غالي لشعبك غالي ” من عصر القذافي إلى عصر ” دولة رئيس” تأملي تخرّج من جامعة ” الجماهيرية العظمى ” و كذا عصر برلمان من الطراز الجماهيري و كذاعصر المليشيات المعطوبة وعصر الحالمين في براري فسحة التخلي عن حكمة الملك وعن الملك ذاته ، هكذا دفعة واحدة ،الداعين إلى عودة ” الملكية” التي اغتالوها بايديهم لا بيد هولاكو، وبالطبع مروراً بمهزلة ” خطاب ازوارة ” أيّ بعصر التبشير الثقافي الإستبدادي بـ “تعطيل جميع القوانين المعمول بها في البلاد” وسجن المعارضين وحرق الكتب والمجلات مع صيحة الـ ” دوس على الرجعي والخاين واللي ما عنده مبادئ” وهي كلمات جنت الكثير إلى أن بقدرة فائقة استوحى احد العباقرة منها اهزوجة “دوس على الرجعي والخائن ” الشهيرة التي أطربت المجتمع.
ملاحظة أخيرة
ثمة من مُبشرين جُدد بـعصر ” الجماهيرية الثانية”.