طيوب عربية

التّداوي من الكآبة بالكتابة

أو حينما يلجأ الإنسان إلى الدّفاع عن نفسه بالكتابة؛ لحماية روحه من الاهتراء…وهم الاحتلال

إبراهيم خيراني | الجزائر

أنّي إرنو- الاحتلال
أنّي إرنو- الاحتلال

فرضت الكاتبة على نفسها احتلالا روحيا، وجعلت القهر والعذاب يتسلّلان إليها؛ حتّى تتلذّذ نفسها بالغيرة.

فكلّما اشتعلت الغيرة، دفعتها إلى استكشاف مزيد من الخبايا عن غريمتها التي أخذت زوجها.

إنّ الغيرة محفّزة للبحث عن أدقّ التّفاصيل في حياة الآخرين، مهما كانت هذه التّفاصيل صغيرة، ومحاولة التّقليل من كلّ ما قد نطّلع عليه من أسرار الآخرين، وجعله محفّزا كي تحلّ بساحتنا الرّاحة النّفسيّة عبر التطفّل.

إنّ إخفاء المرأة لغيرتها يكمن عبر تسليط الضوء على مثالب غريمتها حتى تتجه إليها الأضواء، وتبقى هي في زاوية مظلمة، إنّها (الغيرة)سلاح دفاع ضد المجتمع المتنمّر.

-الاحتلال المجهول وهواجس معرفة التّركيب المادّية للمحتل. فقد صارت الكاتبة تعتبر غريمتها أرضا عليها معرفة أدق تفاصيلها” …إنها تبلغ السابعة والأربعين…مُدرّسة…كما لها بنت في السادسة عشرة وتسكن جادّة راب…مرتدية تايورا محتشما وتحته قميص، بينما لا تشوب تسريحتها شائبة”ص19.

هذا كلّ ما وصلت إليه بعد كلّ المحاولات. غير أنّ سؤالا ملحّا يطفو على السطح؛ ما الذي دفع بامرأة قامت بالتخلي عن زوجها بمحض إرادتها من محازلة التعرّف على خليلته الجديدة؟ وفيم سيفيدها التعرّف عليها؟!

إنّ التفكير الزائد والشعور بالقهر جعلاها تتلهّف إلى معرفتها، بل سبّبا لها هاجسا، جعلها ترى بأنّ كل امرأة أربعينية تحمل حقيبة هي خليلة لطليقها” في المترو، كنت أحسب أيّ امرأة أربعينية، تحمل حقيبة بأنّها هي…” ص20

إنّه هوس البحث عن شخص لن تفيدنا معرفته في شيء.

لكنّ النّفس البشريّة تجعل من التطفّل دواء للهواجس، ويصبح التطفل حالة صحّية تقي من أمراض الأعصاب والجنون، بل وتملأ الفراغ، وتشغل الإنسان.

لقد أوجدت لنفسها عملا جديدا، وكلّفتها روحها الكئيبة بأن تعمل محقّقة؛ لتكشف عن غريمتها حجاب التخفّي، ربّما تقارنها بينها وبين نفسها؛ لترى أتحسد زوجها السابق على اختياره، أم تحتقره لأنّه أبدلها بأخرى وضيعة وتشتم ذوقه، كي يتسنى لها أن تبرر لنفسها بأنّها تخلت عنه لرداءة ذوقه ، وبأنّها أكبر عقلا منه وهو لايستحقها.” لم يشأ أن يقول لي، لاكنيتها، ولا اسمها، هذا الاسم الغائب كان بمثابة حفرة، فراغ، كنت أدور حوله” ص29

لقد أصبحت كمن يطارد وهما، شرطيّ تحقيق يتدرّب ليمسك مجرما مجهولا لن يفيده إمساكه في شيء.

ما الذي ستجده إذا عرفت تفاصيل غريمتها؟ هل ستكفّ عن التطفل وترتاح؟

كانت تسأله دائما عن اسمها حين تلتقيه، لكنّه يردّ عليها بسؤال وجودي أهمّ “بم سيفيدك الأمر لو عرفت؟”ص29

وتجيب هي نفسها” أصبح البحث عن معرفة اسم المرأة الأخرى بمثابة هوس عليّ أن أروي غليلي منه مهما كلّف الأمر”ص31

صارت ترى راحتها النّفسية في التطفل على غريمتها، ومعرفتها، وترى بأنّ الحياة بشعة مالم تجتز عقبة التطفّل.

لقد كانت تتعذّب من الداخل كلّما مرّ الوقت ولم تعثر على دليل يقودها إلى هذه المجهولة.

رغم ذلك كانت تنتابها بعض لحظات المتعة، ” لحظة المتعة كانت في تخيّل تلك المرأة وهي تكتشف بأنّه لايزال يقابلني”ص49

إنها بذلك تريد أن تراها وهي تتعذب حين تكون معه، كما تتعذب الكاتبة وهي تراه مع امرأة أخرى. بل إنها تريد أن تستمتع بغيرة غريمتها وألمها”…وأخفّف حمولة ألمي بشكل مؤقّت، بتخيّل ألمها” ص50

غير أنّ هذا التطفّل لم يدم طويلا، فقد استيقظت يوما ولم تعد لها رغبة في معرفة غريمتها، هكذا دون سبب مقنع، وانتهى الاحتلال الروحي فجأة، دون أن يُعلم من المنتصر.

إن الكاتبة، وهي تعرض جزءا هاما من حياتها، تحاول تعرية ذاتها كي تستطيع التسلل إليها ومساءلتها.

وقد رأت بأنّها أمام حتمية أن تعرف نفسها لتداويها بالكتابة، وتفطّنت إلى أنّ الإنسان يسعى دائما إلى التطفّل ومحاولة معرفة سرائر الغرباء ونمط تفكيرهم، ولا تجد الواحد منهم يحاول معرفة نفسه، وهو الأهمّ في الحياة.


أنّي إرنو- الاحتلال- تر: اسكندر حبش- منشورات الجمل-2011-68ص

مقالات ذات علاقة

جرعة أمل

المشرف العام

استحضارُ الحروفِ الغائبة

المشرف العام

حمام زاجل

زيد الطهراوي (الأردن)

اترك تعليق