المقالة

عيـد الدستور!

الذّكرى الواحد والسبعون لإصدار الدستور المؤسس لدولة ليبيا الحديثة

شكري السنكي

دستور ليبيا
دستور ليبيا

مرت بالأمس الموافق السابع من أكتوبر 2022م، الذّكرى الواحد والسبعون لإصدار دستور ليبيا، وبهذه المناسبة العزيزة على قلوبنا جميعاً نرفع أسمى آيات التهاني والتبريكات لسمو الأمير محمّد الحسن الرَّضا السّنوسي ولكافة أبناء الأمّة الليبية الكرام. ونؤكد على ضرورة التمسك بوثيقتنا الدستورية وضرورة حضورها الدائم فِي أذهاننا، وفي جميع حواراتنا الوطنية التي نخوضها مِن أجل إيجاد حل أو مخارج للخلافات والإشكاليات القائمة، فخلافاتنا ينبغي ألا تنسينا هذه الوثيقة التعاقدية المؤسسة للدولة، فلا حل إلاّ باسترجاع حق الأمّة الليبية المسلوب، والرجوع إِلى الوثيقة الأساس، لأنها سر قوَّتنا وعنوان وحدتنا وسمة تميزنا عن بقية الأمم والدول والشعوب، لأن دستورنا أصدرته إرادة أمّة ولم تصدره إرادة دولة، حيث صدر قبل إنشاء الدولة، فالاستقلال كان في 24 ديسمبر 1951م والدستور صدر يوم 7 أكتوبر 1951م، وهذه خصوصية تفردت بها ليبَيا عَن باقي بلدان العالـم. 

قاوم الليبيون المستعمر الإيطالي الغاشم، في كافة مدن ليبيا وجبالها ووديانها وسهولها، وخاضوا نحو خمس مئة معركة مع المستعمر الطلياني وفقاً لإحصائيات المُؤرخين والبحاث الأكاديميين، وذلك من العام 1911م إِلى العام 1931م، وهو آخر أعوام المقاومة عندما سجل استشهاد الشّيخ عمر المختار المشهد البطولي الأخير لجهاد الشعب الليبي الذي قدم نحو نصف عدده، أي نحـو سبع مئة ألف مواطن، وكبد في الوقت نفسه المستعمر خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، ولقنه درساً عظيماً وعصياً على النسيان. 

قاوم الليبيون المستعمر الإيطالي ببطولة نادرة، وبسالة منقطعة النظير، في ساحات القتال، على مدار عشرين عاماً متواصلة، وخاضوا معه معركة سياسية شاقة استمرت إلى ما يقارب من عشرين عاماً أخرى، وانتهت بإسقاط مشروع الوصاية بفارق صوت واحد لصالح استقلال ليبيا، ثم استمر الوفد الليبي المفاوض في معركته السياسية حتى تمكّن من الحصول على موافقة الجمعية العامة للأمم المتَّحدة القاضي باستقلال البلاد، الموافقة التي صدرت في القرار رقم «289»، الصادر يوم 21 نوفمبر 1949م، والذي أيدته «49» دولة وعارضته دولة واحدة وامتنعت ثماني دول عن التصويت، والقاضي بمنح ليبَيا استقلالها فِي موعد لا يتجاوز الأوَّل من يناير 1952م، شرط أن تتفق الأمّة الليبية قبل الموعد المحدد على شكل الدولة ونظام الحكم بواسطة ممثلي السكّان في برقة وطرابلس وفزَّان، ويتمَّ إصدار الدستور، والذي هو شرط قيام الدولة والاعتراف بها.   

بذل أعضاء الجمعية الوطنية التأسيسية «لجنة الستين» كل ما بوسعهم من أجل تحقيق كافة الاشتراطات الأممية قبل انتهاء المدة التي حددتها الأمم المتَّحدة، وحققوا المراد قبل انتهاء المدة المحددة بثمانية أيام.

اتفقوا أولاً على مرتكزات العمل الأساسية قبل الانطلاق في تنفيذ الأعمال، ورتبوا سلم أولوياتًهم، ووضعوا الوطن نصب أعينهم فتنازل بعضهم لبعض لأجل أن تكون ليبيا حرَّة أبية مستقلة.

اتفق أعضاء الجمعية قبل الشروع في وضع الدستور على نقطتين أساسيتين كانتا المرتكز الأهم في وضع مواد الدستور، وهما: أن تكون ليبيا دولة اتحادية. وتكون دولة ملكية، وأن يعرض عرشها على الأمير إدريس السنوسي. وقد أعلنت الجمعية عن هذا الاتفاق «إعلان النظامين الملكي والاتحادي» في 2 ديسمبر 1950م. وفور إعلان الاتفاق المذكور، أرسلت الجمعية رسالة إلى الأمير إدريس تبلغه فيها بقرارها وأنها تعتبره من الآن فصاعداً، ملك ليبيا، فشكر الأمير الجمعية، ولكنه رأى أن يؤجل إعلان قبوله إلى أن يوضع الدستور وتصبح جميع الاشتراطات المحلية والأممية «الأمم المتَّحدة» مستوفاة لإعلان استقلال ليبيا وسيادتها الكاملة على أراضيها وحدودها.       

وفي 2 ديسمبر 1950م، عينت الجمعية الوطنية التأسيسية لجنة خاصّة مكونة من «18» عضواً سميت بـ«لجنة الدستور»، ومهمتها إعداد مشروع الدستور، وكلفت هذه اللجنة مجموعة فرعية مكونة من ستة أعضاء عُرفت باسم «جماعة العمل»، ومهمتها وضـع أجزاء مختلفة من الدستور، وتقديمها إلى اللجنة لمناقشتها والبت فيها. 

تمت ترجمة دساتير اثنتي عشرة دولة اتحادية حول العالم، إلى اللغة العربية لأجل الاستفادة منها والنظر إليها باهتمام وعين فاحصة. وانتهجت جماعة العمل التشاور مسلكاً، فكانت على تشاور مستمر مع إدريان بلت مبعوث الأمم المتَّحدة إِلى ليبيا، ولم يكن لديها أدنى مشكلة في قبول نصحه ونصائحه.     

عقدت جماعة العمل ستة وتسعين اجتماعا، وعقدت لجنة الدستور خمسة وعشرين اجتماعاً، وقد أقرت اللجنة فصول الدستور المحالة إليها من جماعة العمل فصلاً قصلاً بعد مناقشتها وإضافة تعديلات طفيفة عليها في حالات جد محدودة.

كانت هناك اختلافات وتباين في وجهات النظر منذ محاولة الاتفاق على شكل الدولة ونظام الحكم قبل الشروع في وضع الدستور، حيث أصر ممثلو إقليمي برقة وفزَّان على النظام الاتحادي والتأسيس على قاعدة التساوي في التمثيل خوفاً من سيطرة الإقليم الأكثر سكّاناً على دوائر النفوذ وصنع القرار وتهميش الاقليمين الآخرين، بينما رأى الطرابلسيون أن النظام الاتحادي قد يخدم المخطط الاستعماري القاضي بتقسيم ليبيا إلى ثلاث دول. 

وكان هناك تباين في الآراء حول مسألة اختيار أعضاء مجلس النواب والشيوخ، أيكون ذلك عن طريق الانتخاب أو التعيين من قبل الملك. وظهرت اختلافات أخرى حول مسألة تعديل الدستور: الكيفية والآلية. كما ظهرت اختلافات في الآراء حول مسائل: مسؤولية الحكومة، إيرادات الدولة ومصروفاتها، علاوة على عاصمة البلاد، والتي أصر الطرابلسيون أن تكون «طرابلس»، وأصر البرقاويون أن تكون «بنغازي»، وانتهى الأمر بإعلان عاصمتين للبلاد «بنغازي وطرابلس» بعد موافقة أعضاء الجمعية الوطنية التأسيسية عقب مشاورات غير رسمية أجراها بلت مع ملك البلاد المقبل. 

حُلت جميع القضايا المختلف عليها بالحوار، والالتزام باللوائح الداخلية المنظمة لسير الجلسات، وكبح جماح النفوس، ووضع مصلحة ليبيا فوق كل اعتبار. كذلك، بالتشاور المستمر مع إدريان بلت السياسي المخضرم وصاحب المعرفة والتجربة والذي تعاطف مع الليبيين ونشأت علاقة تفاهم وصداقة بينه وبين الأمير إدريس ملك البلاد المقبل، وكان يستأنس برأيه ويزوره بين الفينة والأخرى في مقر إقامته في بنغازي ويتباحث معه حول جملة المسائل المختلف عليها أو التي أثارت الجدل، وكثيراً ما ساعده في الوصول إلى اتفاق.   

لم يكن خيار الدولة المدنية والحياة الدستورية خياراً غريباً على الليبيين، إذ أنها فكرة أصيلة ومتأصلة فِي المجتمع الليبي، وجذورها ممتدة إِلى عهد حكومة إجدابيا 1920م الّتي كان مقر برلمانها فِي بّنْغازي، وحكومة برقة التي قامت على دستور وانتخابات وبرلمان بعد إعلان استقلال الإقليم في العام 1949م، وتواصلت المسألة بعد ذلك إلى أن أصبح الدستور شرطاً أساسياً لإتمام عملية الاعتراف باستقلال ليبَيا والإقرار بأنها دولة حرَّة مستقلة ذات سيادة. وللتدليل على رسوخ فكرة الحيَاة الدستوريّة فِي الإرث الليبي، نكتفي بالقول، إنَّ ليبَيا هي الدولة العربية الوحيدة الّتي تحتفل بإصدار دستورها، وأنها – طيلة سنوات العهد الملكي – كانت تعتبر يوم السّابع مِن أكتوبر عيداً وطنياً وتعتمده يوم عطلة رسمية، نظراً لأهمية هذا اليوم فِي حيَاة الليبيين وميلاد دولتهم وتاريخ بلادهم. 

وإذ نحتفل بهذه الذكرى العطرة، فإننا نستلهم منها ما قدمه الآباء المؤسسون من إنجاز عظيم ودروس مستفادة قائمة على إعلاء قيمة الوطن فوق كل شيء باعتباره مصدر العزة والرفعة، والوعي الشديد الذي يدرك الواقع ولا يغفل الماضي وينطلق نحو المستقبل مرتكزاً على رؤية ومعرفة وفهـم. 

انطلق الآباء المؤسسون من فكرة أهمية قيام الدولة التي من أجلها تقدم التضحيات والتنازلات، وأهمية وجود دستور ينظم شؤون الدولة وحياة المواطنين. وانطلقوا من إدراك لتاريخهم النضالي الطويل ووعي شديد به، ورأوا أن هذا التاريخ لن تكون له قيمة حقيقية ما لم يترجم في قيام دولة تصون كرامة الوطن والمواطن على حد السواء. واجتمعوا على هدف الاستقلال والوحدة الوطنية وقيام الدولة، وقبلوا بحق الاختلاف حول الآليات والكيفية التي تدار بها الدولة. وانجزوا دستوراً في لحظة فارقة في حياة الليبيين، والدستور يمثل اللحظة الفارقة في حياة الشعوب والأمم، وهو الأسس الذي تقوم عليه أي دولة تريد أن تحقق ذاتها وتحمي كيانها وتحافظ على حقوقها وتشق طريقها نحو المستقبل الواعد المشرق.    

ولعنا نستدل في هذا السياق بالدستور الأمريكي الساري المفعول حتى الآن، أقدم دستور مكتوب غير منقطع الاستعمال في العالم، والذي شكل صدوره لحظة فارقة في حياة الأمريكيين، وقد كُتب في العام 1787م ودخل حيز التنفيذ في العام 1789م. واللحظة التي كُتب وصدر فيها هذا الدستور يستحيل تكرارها، والتخلي عنه قد يعرض الولايات المتَّحدة إلى التفكك والانهيار، ولهذا يتمسك الأمريكيون بدستورهم المؤسس لدولتهم وكلما رأوا ضرورة لتعديله قاموا بذلك محافظين على الأسس والروح التي قام عليها، لأنهم يعلمون تمام العلم أن الشعب الأمريكي لن يجتمع مجدداً على كتابة دستور جديد وستظهر بينهم من الخلافات العميقة ما يحول بينهم وبين ذلك.

واليوم، عجز الليبيون عن كتابة دستور جديد لبلادهم بعد اثني عشر عاماً من ثورة السابع عشر من فبراير، وظهرت بينهم خلافات عميقة حالت بينهم وبين كتابة الدستور، وبرزت أخطار عظيمة صارت تهدد الوطن في كيانه ووجوده. ولهذا صارت العودة إلى دستور الاستقلال ضرورة وليست خياراً، لأنها تعني التمسك بوحدة البلاد والبناء على أسس الشرعية والتراكم، ولا تعني إعادة دولة الماضي، أو كما قال الأمير محمّد الحسن الرضا السنوسي: ” الدستور لا يسقط بتقادم الزمن، ودستورنا هو الوثيقة التي قامت عليها الدولة، والوثيقة التي حافظت على قوتها من الناحية القانونية والتاريخية. والعودة إلى هذه الوثيقة لا يعني إعادة دولة الماضي، لأننا نسعى إلى ملكية دستورية ديمقراطية تواكب التطور وتمنح المظلة المناسبة لأبنائها جميعاً دون استثناء، لتحقق آمالھم وتطلعاتھم. نطمح لاستكمال ما بدأه اللیبیون عندما ناضلوا من أجل استقلالھم الذي تحقق في ذلك الزمان، ونحن على ثقة بأننا نستطیع سویاً الوصول إلى ھذا المبتغى”.   

السبت الموافق 8 أكتوبر 2022م

مقالات ذات علاقة

مفهوم أنواع جرائم الإنترنت

المشرف العام

تاريخُهم وتاريخهُن

فاطمة غندور

أغـنية الطـفـل

زياد العيساوي

اترك تعليق