قصة

آخر يوم في بنغازي

مدينة بنغازي كما رسمتها الفنانة الإيطالية تيزيانا فانيتي
مدينة بنغازي كما رسمتها الفنانة الإيطالية تيزيانا فانيتي عن بوابة الوسط

يطوف حائرًا قلقًا كمن يبحث عن شيء مفقود، نظرات عينيه مملؤة بالخوف كطفل صغير تائهٍ بعيدًا عن والديه، تارةً يراقب الأرفف بحثًا عن عنوان ما، وتارةً أخرى ينظر للرسومات التي على الحائط، وبين هذا وذاك ينظر للناس من حولِه ليلاحظ ردود أفعالهم تجاه تصرفاته الغريبة.

  انقضى الوقت وبدأ الناس في مغادرة الباخرة، وهمَّ الفريق بتنظيم وترتيب  الصالة المخصصة لاستقبال روّاد الكتب بعد كل زيارة، ولا يزال سامي واقف في مكانه والسكون مطبقٌ على صدره، لاحظ الصالة التي تقذف بين لحظة وأخرى الناس خارجها فارغةً، تطلّع بعينين مثقلتين لميناء بنغازي من إحدى النوافذ الصغيرة على الحائط، ومرّر نظراته بعيدًا حتى رأى كاتدرائية بنغازي بقبتيها الخضراوين، ثم شعر بالسكون قد عاد يباغته مرّةً أخرى بشكل جديد، وتطلّع خلفه للصالة التي خلَت من النّاس غير فتاة تشبه زهرة دوّار الشمس في جمالها، فتاة ذات بشرة بيضاء، بشعرها الأشقر الذي يصل حدّ كتفيها، وما إن انتبهت له حتى احمرّت وجنتاها وصارت شبيهةً بلون التفّاح، وارتسمت على ثغرها ابتسامةٌ خفيفة أزالت الخوف والقلق عن محيّا سامي.

  عاود سامي النظر مرّة أخرى عبر النافذة متطلّعًا لرؤية المنارة البرّاقة، كانت بهيّة عظيمة، واقفة شامخة وسط الرّكام الملتفّ حولها، واسترسل بالنظر للكورنيش، ارتسمت على ثغره بسمة موجعة، تساءل بينه وبين نفسه؛ هل سيُرَى جمالٌ شبيهٌ بجمالِ “سيدي اخريبيش” مرّة أخرى في بقاع الأرض؟

حينها تنحنحت الحسناءُ من خلفه معلنةً عن نهاية وقت الزيارة، وكان صوتها رزينًا ناعمًا، مما جعل سامي يبدأ بتنفيذ القرار الذي اتخذه قبل قدومه لهذه الباخرة.

وأجابها بلغة إنجليزية ممتازة بأنه سيدخل لدورة المياه ومن ثم يغادر الباخرة، وما إن دخل لدورة المياه حتى غادرها دون أن ينتبه له أحد، وأخذ يسرع بخطواته في ذلك الممر الطويل الذي يخلو من كل شيء إلا الأبواب المتراصفة جنبًا إلى جنب، وما إن لمح في نهاية الممر المظلم مخزنًا للكتب حتى دخله بسرعة للاختباء فيه، تطلع بعينين حائرتين في العناوين، فقابلته عدّة كتب مسيحية مُنِعت من العرض، أحدُها يحمل عنوان “يوحنّا ونور المسيح” والآخر “يسوع الربّ وأمّه” وآخر غريب الغلاف والاسم “الإله الأب والإله الابن”. تركها وشأنها وأغمض عينيه قائلًا: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ).

وارتسم في خياله غلاف الكتاب الكريم فتمدّد أمام الأرفف منتظرًا مغادرةَ الباخرة للميناء، لينقضي آخر يوم له في بنغازي.

مقالات ذات علاقة

تحـــــلل!

غالية الذرعاني

حديث الغرباء

صفاء يونس

3 حكايات

المشرف العام

اترك تعليق