تشكيل

قراءة في تجربة الفنان التشكيلي الليبي/ علي المنتصر

نادية العابد

الفنان التشكيلي علي المنتصر

عند مشاهدتي لبعض الأعمال الفنية أصاب بحالة من الذهول ويغادرني الصخب وأقترب من نفسي وعوالمي الخاصة وأشعر بحالة من السلام والتصالح والهدوء والحرية.. الفن وحده المرفأ الذي يضمن تجمع الآراء والنقاشات والرؤى ووحده يرسم الواقع ويقدمه للمتلقي ليجد فيه المتعة والحوار وليعيش التجربة.

ولذلك عند الحديث عن المشهد الفني والثقافي الليبي ورواده فإنني سأنحو للحديث عن فنان محب وعاشق للفن.. يرسم بشغف ويصرخ بصمت، يعبر عما بداخله بأعمال تسلط الضوء على انفعال وتفاعل إنسان، وليس هذا فقط بل إنه ينتج بسخاء ويوثق أعماله بمراحل ويضع لها عناوين ليسهل للمتلقي الفهم والتواصل معها واستيعاب محتوى الرسائل الكامنة فيها.

هذا الفنان الجريء صاحب الريشة الجامحة والفكر اللامع بحضوره الرصين ونظراته الثاقبة وابتسامته الواثقة والمتهكمة تارة والمربكة في آن معاً تشعرك بالتوتر والاستفزاز للوهلة الأولى ولكنه يمنحك بكل لطف كل اهتمامه إن وجهت إليه حديثاً أو سؤالاً، تشعر أحياناً أنه غائب وقت حضوره وكأنه يسبح هناك في ملكوت خياله وهذيان عقله المفعم بالنشاط.. أعماله تقذف بك في بؤرة الدهشة بألوانها الصارخة التي تصل حداً تغمرك بحدتها وترمي بك في غياهب الإدراك رغم القلق الكامن فيها والرهبة من كشف مكنونات خباياها.

قفز هذا الفنان باللوحة الليبية الى مستوى أكثر تكاملاً وغنىً بقيم الفن وظواهر الجمال وهذا يجعل منه محطة رئيسية وغنية على طريق التطوير الإبداعي في تاريخ التصوير الليبي. إنه الفنان الليبي علي المنتصر.

والحقيقة إن المنتصر منذ بداياته كان مشحوناً بالتمرد على واقعه والمنهج الفني وقوالبه المحددة.. حين استقر في محترفه أطلق لفرشاته العنان ليحقق الهدف الذي لا يمكن أن يغيب عن بصر أي مبدع وأصيل، وأعني تحقيق الذات بكل ما تملكه من قدرات وطاقات والتي كان راغباً بها في بناء شخصيته الفنية المستقلة بذاتها تتمثل في لوحة جديدة بهوية ساطعة الملامح متفردة ومتميزة دون أن تقطع نسبها الفني والإنساني أو تطمس ملامحه.. هذه المهمة ليست بالسهلة بل تدعوك لتدرك أنه يمتلك صفاء حدس يحاكي حالة تصوف ورهافة حس بالغة الذكاء والتوقد وثقافة بصرية مستمدة مباشرة من الحياة وحركتها في الطبيعة والإنسان إلى قدرة فائقة في الرسم والتشكيل تمتلكها الأنامل بتلقائية، وأضف لهذا كله وجدانية قد بلغ بها الحب للحياة وظواهرها الجمالية حد الافتتان والعشق ليكون مندمجاً كلياً حساً وشعوراً وفكراً.

يوم أن زرت محترفه وجدت نفسي أمام كم من الأعمال التي تكونت على أساس وبمفهوم لم يؤخذ أو يدرس في أي كتاب، كان مفهوماً شخصياً نشأ وتكون في عقله نتيجة معاناة طويلة وصادقة وممارسات ذكية وواعية سواء برؤية فنية أو بأسلوب ومعالجة تشكيلية.

وأكثر ما لفت انتباهي في أعماله سمة التكامل بمعنى أنها بكافة مساحاتها وأحجامها تؤلف كلاً موحداً لا يحتمل الفصل كأنها بنية واحدة متماسكة الأجزاء بفعل ترابط حميم بينها جميعاً، وإنني أظنها ظاهرة فريدة من نوعها لما تحمله من تجديد في أسلوب وهندسة وبناء اللوحة والتي تمثل لديه هماً من الهموم الفنية.

يعتمد المنتصر عناصره الحسية كمحفز مهم في إطلاق مخيلته للتعامل معها حد تحركات الروائح في طبيعة المكان وصولاً لنغمات الموسيقى ومؤثراتها ومشهدياتها المتنوعة، تلك الحواس السمعية والبصرية لم تكن بمعزل عن طبيعة أعمال المنتصر بل جاءت لتنصهر في جوهراللوحة لتعبر عنها دون تصريح واضح، لغة بصرية تدخل في مسرحية التفاصيل والتعامل مع السطح.. إن تكوينات العمل الفني لديه منفتحة على كل الاحتمالات عبر سياقات تفكيره لتسبح وتتحرك في فضاء جديد يريده الفنان فيصبح العمل مادة تأليفية تثير التساؤلات حول ما يقدمه النص البصري المفاهيمي وعلاقته بالذاكرة كما أن خلفيات لوحاته لم تكن مجرد فراغ بل إنها بما تحمله من أشكال وألوان تعد امتداداً وجزء متمم لها بحيث تضيف لمعناها الجمالي كما يحدث لأنغام الموسيقى امتدادات وأصداء خافتة تسترسل الى أعماق الروح وهذا التشبيه لم يرد على خاطري من باب المصادفة بل من ملاحظات وأحاديث واستنتاجات بأن الموسيقى أبت أن تتخلى عنه فيما يبدو وهي قائد فرشاته معظم الأوقات إن لم يكن في جلها وهي التي بقيت ساكنة في ضميره كما الأم لتسري عبر أنامله لتتخذ طريقها الى مداركنا لتستقر قيماً ودلالات فنية وظواهر للجمال , ومن هنا نجد التفسير الموضوعي لذلك الإحساس المشترك الذي يساورنا إزاء أعمال المنتصر والذي ينعكس في احساسنا بنغم الموسيقى الغني والتي تأخذنا بالجملة حيناً وبالتفصيل حيناً آخر، إنها المصدر الرئيسي والحقيقي والنسيج التجريدي الساحر الذي يكسو مساحات اللوحة بمهارة لا تنكشف إلا للقليل.

هذا ما يتفرد به المنتصر في أعماله، إتقانه للغة التجريد نلتمسها من خلال ما يطالعنا فيها من ظاهرات تحملنا للذهول وكأن للوحة أعماق مسكونة بأرواح خفية نابضة بالحياة منها ما يغني ويعزف ومنها ما يتموج ويترنح ويرقص ومنها ما يرتقي بنا في مناخات عجيبة تتركنا أو نتركها ونحن في حالة الدهشة والمشاعر الغامرة وكله يحدث بتأثير مباشر من نسيج تجريدي ساحر وفقاً لسياق نغمي منضبط بأصول وقواعد ربما في تقنية الفن والموسيقى كما في مقامات الألحان ومفاتيح الأصوات وسياق الحركة الموسيقية من احتدام وجيشان وخفوت وسرعة وإبطاء وتوافق وتضاد وتناغم وانسجام، المهم أن يخرج مترجماً الى لغة الشكل واللون والضوء والظل، وهكذا يبرز هذا الفنان من خلال لوحاته ضليعاً فائق المهارة في صياغة اللوحة التعبيرية الحديثة، وليس هذا فحسب بل إنه يعتمد في تقنيته لصنع الصيغة التشكيلية الكثافة في العناصر ويتخطى مجرد التعبير عن شيء ما في نفسه أو خارجها مرتقياً الى مستوى الابداع ومحولاً مساحات لوحته الى عالم آخر متكامل جديد وفريد بذاته بحيث يأبى اخضاع فرشاته لتعاليم نظرية بل ينطلق بإحساسه المباشر وما تلتقطه حدقتا عينيه خلال التأمل العميق في بواطن الأشياء والكائنات ووجوه البشر، فهو يحافظ في  لوحاته على عنصري المجرد والمادي ويجعل بينهما علاقة حميمية يستحيل سلخ أحدهما عن الآخر فيظلان الينبوع للمزيد والجديد من موضوعات الفن وقيم الجمال، لذلك يحاول ابقاء تلك العلاقة في مضمون رؤيته الفنية ويوظفهما بلباقة ومهارة في خدمة عمله الفني بوعي تام.

هذا ما أجده أنا من قيم تثير بنفسي كل هذا الإعجاب والدهشة في أعمال المنتصر ولعل حالات الرصانة والبساطة التي تعتريها هي التي تحول دون كشفها في أول لقاء بل ربما هذا ما تبتغيه في الأصل أن لا تنكشف، فثمة شيء فيها كالسر مصحوب بعناد هادئ مصمم على عدم البوح لتترك للمشاهد المبادرة للتواصل والفهم ولتأخذه الحيرة والذهول ولتنسيه كونها مجرد لوحة بالألوان مرسومة على قطعة قماش، وفي هذا النسيان سر الإبداع وسحر الفنان الذي يمارسه عمداً ليحول لوحته الى كائن يتسلل الى ذواتنا ويقيم فيها ويزرع الإيجابية المؤثرة كالشعور الذي يتملكنا بأننا أصبحنا أكثر غنىً ووجداناً وأرفع وأنقى إنسانياً.

هكذا ببساطة مدهشة تبدع ريشة المنتصر المفعم بالقيم الإنسانية ليتركنا في حالة ذهول ودهشة وتساؤل كيف له أن يجعل من نفسه هذه الظاهرة الفنية الفذة.


* نشر بمجلة رؤى الثقافية العدد (48)

مقالات ذات علاقة

حديث الْمَشَّائين ورحلة السوق اليومية في لوحات صالح عبدو

عدنان بشير معيتيق

الفكر الانساني كمنتج اساسي للفن

عدنان بشير معيتيق

مزيج من هدوء ومن تأمل

ليلى النيهوم

اترك تعليق