قراءات

(في الحَربِ والثقافة) والرؤية الثاقبة للأحداث

كتاب (في الحرب والثقافة) للكاتبة الليبية فوزية شلابي
كتاب (في الحرب والثقافة) للكاتبة الليبية فوزية شلابي

(1)

يكتسي كتاب (في الحربِّ والثقافة)(1) للأديبة فوزية شلابي أهمية بالغة في الولوج إلى فكرها العروبي القومي، والتعرف على أسلوبها الاستشفافي وقراءاتها العميقة في تتبع ما تتعرض له الثقافة والهوية العربية من تحديات ومخططات مضادة. كما يبرز مقدرتها على المحاججة والمجادلة القومية المتأسسة على مخزونٍ وزادٍ معرفي وافر، ومستوى رفيع من المطالعة الغزيرة، والتحليلات السياسية النقدية العميقة، التي تدك حصون العقل العربي وتخترق السواتر التقليدية التي يستمد منها منطق ردوده ودفوعاته الهشة.

وجاء الكتاب في مائة صفحة من الحجم الصغير بالإضافة إلى الفهرس، مشتملاً على مدخل زاخر بالنداءات القاسية المريرة التي تجلد الذوات العربية المتشظية وتصفع العقل العربي المتكلس بالعديد من الأسئلة والوخزات والاستفزازات المواجهة، بهدف إيقاظه من سباته العميق وإعادة الروح إليه من جديد. وبعده مباشرة نطالع تسع موضوعات متسلسلة تتشارك في همومها الفكرية الثقافية كما تصرح عناوينها المباشرة كالتالي:

أولاً: مشروع المحاكمة 

ثانياً: الحرب والأسئلة الجديدة

ثالثاً: البرنامج الثوري القتالي

رابعاً: ديمقراطية العمل الثوري

خامساً: العمل الثوري بين (المعلمين) و(المناضلين)

سادساً: الثقافة القديمة والأوهام   

سابعاً: التقنين والثقافة الجديدة 

ثامناً: تخلف ثقافي أم تناقض 

تاسعاً: الإرث الديني والثقافة المأزومة 

ونكتشف أن مضامين وأفكار هذه المواضيع النقدية التحليلية للوضع السياسي العربي والشأن الثقافي كانت عبارة عن مقالات صحفية نشرتها الكاتبة بداية من تاريخ 2/7/1982م وحتى يناير 1983م بصحيفة الجماهيرية إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان وجرائم مجزرتي “صبرا” و”شاتيلا” خلال صيف يونيو 1982م، كما تشير هوامشها السفلية.

وبقراءة سريعة لمدخل الكتاب نجد أنفسنا أمام نصٍّ كُتب بلغة شعرية رقيقة مفعمة بالمشاعر والأحاسيس الغاضبة الثائرة في وجه الركود العربي بكل تجلياته السياسية والاجتماعية سواء كانت تمس حكومات الدول العربية أو شعوبها، واستحضار أربعة شواهد في الدفقة الأولى (القلم، المحبرة، الفرشاة، المقهى) وزرع السؤال الاستفزازي في قلب النص عمّا آلت عليه هذه الرباعية، ومصيرها بعد العاصفة العدوانية الوحشية التي قادتها القوات الإسرائيلية الغازية للبنان، حيث تستهل الكاتبة هذا المدخل بقولها:

أحصينا عددَ قتلانا

لملمنا أشلاءَ جثةِ الوطن

وعلى الرصيف يبست بقعةُ الدم، صارت سوداء.

قاسية، خشنة.

بهتت ألوان الطيف

لكننا لم نسأل عن القلم الذي أضحى شريداً.

عن المحبرة المتناثرة وسط أشلاء اللحم.

عن الفرشاة التي ردمت في المقابر الجماعية.

عن المقهى الذي اختباء تحت الكرسي!(2)

وبعد تسعة سطور متتابعة ينطلق صوتُ النداءات الثائرة، المنتفضة من ركام هزيمة الكيان العربي فكرياً وعملياً في ساحة الحرب أثناء شهر يونيو 1982م، واندحار الحلم العربي في المقاومة والتحرير المنسوج عبر السياسات الوهمية للأنظمة الحاكمة، مخاطباً أربع كيانات مادية في ظاهرها هي (قلم، محبرة، فرشاة، مقهى) تم توظيفها رمزياً في النص لتعبر عن الكتابة والفن واللقاءات المفعمة بالحوار والفكر والثقافة في فضاءات استراحة وبهجة واحتساء ما يبث في الجسد والروح والفكر المزيد من الطاقات الحيوية والنشاط:

فيا قلم

ويا محبرة

ويا فرشاة

ويا مقهى(3)

وفي دفقتها الثانية تواصل هاتفةً بنفس صوت المنادي الثائر الصادح، وهي تختتم طوفان غضبها وبراكين ثورتها بتوسع يشمل (عمال المطابع، الورود القتيلة، معارك الشعر، هيستيريا الغناء) فتقذفهم جميعاً بسؤال مرير يدك ركام الخيبة وحجم الخسائر الفادحة مندداً ومستفسراً عن الكم والإرث المتبقي:

يا عمال المطابع

يا ابتهاج الورود القتيلة

يا معارك الشعر وهيستيريا الغناء

كم حجم الخراب الثقافي

وماذا أبقى البرابرة؟(4)

وخلال تلك النداءات المدوية تستحضر ثلاثة أسماء من الضحايا المثقفين العرب الفلسطينيين واللبنانيين على التوالي “هانيء أبي صالح” و”علي فوده” و”خليل حاوي” اغتالهم الصهاينة بوسائل متعددة “جردل، جمرة، رصاصة” تحمل صفة واحدة مشتركة وهي “الموت الأحمر” في تلك النهاية المأساوية والخسارة الفادحة للفكر العروبي التقدمي:

غرق هانئ أبي صالح في جردل الموت الأحمر.

اشتعل علي فوده في جمرة الموت الأحمر

أطلق خليل حاوي على رأسه رصاصة الموت الأحمر(5)

ثم تعدد الدوريات والمجلات المطبوعة والمؤسسات الثقافية الفلسطينية التي دمرها الصهاينة في بيروت والذين وصفتهم بالبرابرة، كناية عن الهمجية والعنف والتوحش والفوضى واللا إنسانية فتقول:

ختم البرابرة على الكرمل

البديل

الطريق

شؤون فلسطينية

الهدف

فلسطين الثورة

إلى الأمام

بشمع الموت الأحمر

نهشت أنيابهم الحمراء جسد مركز الأبحاث الفلسطينية.

ووثائق المكاتب الصحفية والإعلامية(6).

ثم تكرر الكاتبة السؤال الاستفزازي المرير للمرة الثانية وهي تناديه صراحة وتختتم به سطور المدخل/القصيدة تاركة باب الإجابة مشرعاً على مصراعيه أمام العدد الكمي، وتفسيرات التبرير والتوضيح المتعددة وغيرها قائلة:

يا سؤال:

ماذا بقي من جثة مشروع ثقافتنا الجديدة؟(7)

لا شك أن مقدمة هذا الكتاب التي جعلتها المؤلفة على هيئة “مدخل” لعناوين موضوعاتها، وكتبتها بأنفاس شعرية حزينة قاسية، قد جاءت معبرةً عن أحاسيسها ومشاعرها الغاضبة تجاه تلك الهزيمة العربية، ففجرت في عقلها أسئلة نقدية فكرية لاذعة ومريرة، تعكس مضمون مقالاتها التحليلية.

وعند استعراض هذه المقالات التسعة نلاحظ أنه يمكن تقسيمها إلى جزأين الأول يتعلق بالحرب والسياسة ويشمل مقالات (الحرب والأسئلة الجديدة، البرنامج الثوري القتالي، ديمقراطية العمل الثوري، العمل الثوري بين المعلمين والمناضلين)، أما الجزء الثاني فهو المتعلق بالشأن الثقافي ويشمل مقالات (الثقافة القديمة والأوهام، التقنين والثقافة الجديدة، تخلف ثقافي أم تناقض، الإرث الديني والثقافة المأزومة)، وهي مجتمعة تعبر عن الفكر النهضوي وسبل توطين الأيديولوجيا الثورية عملياً في العمل الثقافي والمشهد السياسي العربي.

ومن خلال طرحها الجدلي القوي عند تناولها لهذه المواضيع الفكرية نكتشف مدى العشق العروبي الذي يسكن قلب الأديبة الكاتبة وانحيازها للأمة العربية في قضايا الوحدة العربية الشاملة والقضية الفلسطينية والمقاومة الوطنية اللبنانية، والذي فجر ثورة عارمة في كيانها الإنساني تجاه الموقف العربي المتخاذل بجميع عناصره الرسمية والشعبية، على الصعيد الفردي والمؤسساتي الجماعي.

(2)

الكاتبة والشاعرة الليبية فوزية شلابي
الكاتبة والشاعرة الليبية فوزية شلابي

إن استعراض كتاب (في الحرب والثقافة) للأديبة فوزية شلابي ليست غايته إعادة قراءة جميع مقالاته، ولكن بهدف تسليط الضوء على أهم موضوعاته الفكرية، ولذا فقد اخترتُ المقال الافتتاحي الذي جاء بعنوان (مشروع المحاكمة) وهو أطول مقالات الكتاب، تناولت فيه الكاتبة آثار هزيمة العرب خلال شهر يونيو 1982م أمام قوات الاحتلال الصهيوني في بيروت وانعكاساتها على الشارع العربي والأنظمة الحاكمة بكل تداعياتها على المكونات السياسية والاجتماعية للمجتمع العربي.

وقبل أن نتساءل عن نوعية المحاكمة التي وردت في العنوان ومن هم المتهمون؟ وما هي جريرتهم؟ توضح لنا الكاتبة ذلك في فقرة تمهيدية قائلةً (.. يسجل يونيو 82 هزيمة عربية أخرى ليس فقط لأن عاصمة عربية مهددة بالاحتلال خلال 24 ساعة فقط، وإنما عصراً من النضال الديمقراطي الوطني والثوري مهدد بالسقوط بعد احتلال بيروت.)(8)، وتواصل شرح الأهمية السياسية والفكرية للعاصمة اللبنانية بيروت فتقول (إن قيمة بيروت الحقيقية ليست في موقعها الجغرافي ولا في سحنتها العربية -فهي في هذا لا تختلف عن أي مدينة أو قرية أو حتى نجع عربي آخر-، ولكنها في الإرهاصات السياسية والفكرية الجديدة التي تفاعلت بها مع الواقع العربي العام. وفي صدرها الديمقراطي المفتوح لكل العقد العربية الرسمية وغير الرسمية!)(9) 

وعندما تحاول الكاتبة تشخيص العجز العربي المسبب للهزيمة الأخيرة وما قبلها من نكسات وهزائم أخرى متعددة، تنقلنا زمنياً وفكرياً إلى أوضاع وحالات ما قبل مرحلة الهزيمة وما بعدها فتقول (عقب هذه الهزيمة ارتفعت أصواتُ المثقفين العرب والتيارات الفكرية والسياسية المنشقة والمعارضة في داخل الوطن وخارجه، تنادي بمحاكمة العقل العربي باعتباره المسؤول الأول عن الهزيمة.)(10)

إذاً من خلال هذا الاسترجاع الزمني نكتشف أن المحاكمة هي للعقل العربي الذي اعتبرته الكاتبة المسؤول الأول عن كل الهزائم العربية. فكيف يا تُرى ستتم محاكمة متهم غير مادي، ينتج أفكاراً أيديولوجية تؤدي إلى وقائع وأحداثٍ ماديةٍ؟ ومن هي هيئة المحكمة وأسانيدها القانونية ومدى مشروعيتها؟

إن المقالة تطرح عدة إجابات غير مباشرة لكل تلك الأسئلة، وتكيل اتهامات شتى للعقل العربي بشكل تنظيري صرف دون التدليل والبرهنة على ذلك العجز بأمثلة محددة، ولكن هذا لا يمنعها من قرع العقل العربي بمطارق مدوية دافعها الشعور بالخيبة والمرارة والتذمر، وغايتها محاولة تحليل الأحداث بمنطقية لرسم مستقبل عربي يعد بالنصر والخلاص.

(3)

طالما أن الهزيمة في ساحات الحرب ترجع مسئوليتها بشكل رئيسي مباشر إلى المؤسسة العسكرية بداية من التخطيط والتوقيت والتجهيز والتعبئة الوطنية للأفراد للارتقاء بمستوى أدائهم القتالي، فإن الكاتبة تنتقد في مقالتها التحليلية الطويلة المؤسسات العسكرية في العالم الثالث وتتهمها بالانحياز للأنظمة الحاكمة والولاء للقادة على حساب الوطن وسيادته وقضاياه ومصيره وتقول (بصيغة أكثر وضوحاً يمكن القول إن المهمة التاريخية للمؤسسة العسكرية في العالم الثالث – التي تعادل المهمة الوطنية لحماية التراب الوطني والدفاع عن السيادة – هي مهمة حماية النظام القائم والدفاع عن شرعيته البرجوازية الفاشية من خلال تعطيل حركة التقدم الاجتماعي وقمع الشارع بكل قواه الوطنية. حيث يصبح النظام بديلاً للوطن/ ونزول مدرعات وآليات الجيش للشارع بديلاً عن انتقالها إلى ميادين القتال الحقيقي ضد العدو الأجنبي وحلفائه المحليين …)(11)

وتضيف في عرضها الموضوعي وتحليلها الدقيق لعلاقة المؤسسة العسكرية بتنشئة المواطنين الفكرية والاخلاقية ونظام الحكم الديمقراطي قائلةً (تعد المؤسسة العسكرية في العالم الثالث واحدة من أخطر المؤسسات التربوية التي يعاد فيها تشكيل شخصية المواطن وتربيته على ثقافة التبعية الكاملة والولاء الشخصاني للزعامات الفردية والطبقات والمؤسسات القمعية /الناهبة لخبزه/ المتاجرة بعرقه. وحيث يتم تصوير الديمقراطية على أنها العدو الأول الذي يستهدف وجوده ويهدد أمنه واستقراره، ويتم كذلك اختلاق واصطناع روابط تعسفية بين مستقبل هذا المواطن وبين مستقبل هذه المؤسسة حتى يصبح دفاعه عنها موقفاً شخصياً يمتحن شرفه ورجولته وكرامته الوطنية!!!)(12)، وبإسقاط هذا التشخيص العميق لدور العسكر في دول العالم الثالث ومجريات الأحداث الراهنة في ليبيا نجده يتوافق كثيراً مع ما تشهده بلادنا من صراع على الحكم، وتسفيه عقلية المواطن بالشعارات والدعايات، لترسيخ مفاهيم الولاء للديكتاتورية والزعامة الفردية التي تبتعد بمسافات كبيرة عن تحقيق الاستقرار والسيادة للوطن والرفاهية للمواطن.

(4)

تأسس مقالها (البرنامج الثوري القتالي) على مسرحية (مأساة جيفارا) للأديب الفلسطيني “معين بسيسو”، ومسرحية (تروتسكي في المنفى) للكاتب والفنان الألماني “بيتر فايس”، وكتاب (الفكر العربي في معركة النهضة) لمؤلفه عالم الاجتماع المصري الدكتور “أنور عبدالملك”، وذلك لممارسة نقدية تجاه نظرية “الثورة الدائمة” التي نادى بها “ليون تروتسكي” أحد أبرز قادة الثورة الروسية سنة 1917م، وتأسيس مشروع للفكر النهضوي العربي تخلص فيه الكاتبة بالقول (.. الثوريون فسروا التحريض بأنه “ثرثرة ايديولوجية” ولم ينجحوا في تقديم “الشريك المنتج” كنموذج اجتماعي وثقافي يعبر عن القيم الاشتراكية الجديدة في العمل والانتاج. وكذلك بحيث أصبح الفشل الدراسي معادلاً موضوعياً للثورية ..)(13) وفي هذا السياق تقول في خاتمة المقالة (إنّ الحرب تتطلب أن يكون الثوريون في خطوط المواجهة الأمامية لا التضحية بالجماهير وتركها تواجه العدو وحدها فيما يتخندق الثوريون في المواقع الخلفية لكتابة الأوامر وإذاعة البيانات.)(14)

وتؤكد في نهاية محور الحرب والسياسة إلى أن الشواهد التي ترصدها الأحداث العربية تقول باختصار أن “النموذج الصهيوني” قد هزم العديد من النماذج والمخططات العربية، وبالتالي فإن المطلب الضروري من العقل العربي هو التفكير جدياً في خلق وتفعيل “النموذج البديل” أو “النموذج المضاد” كما أطلقت عليه الكاتبة ثم لاحقاً وصفته بشكل أوسع وأشمل “النموذج الحضاري” وهو الذي تعده وتبدعه الجماهير من خلال مراجعاتها النقدية والقراءات التشريحية المعمقة لأسباب الهزيمة وصورها وأشكالها المختلفة عبر المراحل الزمنية كافةً.

 (5)

في الجزء الثاني المختص بالشأن الثقافي من كتاب (في الحرب والثقافة) سخرت الكاتبة من بعض أوجه وصور الفكر الاجتماعي الطبقي ومصالحه السياسية المعلنة، واعتبرتها مجرد أوهام للقوى المناهضة لحقائق الوجود الاجتماعي ونواميسه المتأسسة على التغيير الدائم وعدم الثبات على وضعية اجتماعية وفكرية واحدة، وهو الدور الذي يطلع به المثقفون في المجتمع الذين يحملون قناديل التجديد والتطوير والقيادة.

وعند تناولها لدور المثقف الهام والخطير وتكوينه كيانه الفكري وسلوكه الحضاري قالت (إن المثقف ليس فكرة مثالية اخترعها هيجل، وليس أيضاً الإنسان السوبر الذي تصوره نيتشه، ولا يمكن أيضاً أن يكون إنسان ابن عربي الكامل، ولا إنسان الفيوضات في الفلسفة الإسلامية، ولا إنسان المشروع الكهنوتي في برنامج سارتر الوجودي.)(15) ولم تترك الكاتبة قارئها جامداً مذهولاً وأسيراً لهذه الفرضية الفكرية وللسؤال البديهي الذي يتفجر في ذهنه: إذاً من يكون المثقف؟ ولذلك نجدها تقدم عدة احتمالات وتصورات لشخصية المثقف وتهيئته الفكرية ودوره فتقول في ختام مقالها بأن المثقف ربما يكون: (الإنسان البرجماتي (!)

أو إنسان الأنا الأعلى الفرويدية (!)

أو إنسان حساب اللذات النبتامية (!!)

وربما يكون إنسان الكتلة التاريخية الغارودية،

وربما يكون الانسان التروسكي المتمرد.

وربما يكون إنسان الثالوث الجماهيري.

وربما لا يكون كل هؤلاء.. وكل هؤلاء !!)(16)

وأمام هذه الحيرة تترك الباب مفتوحاً على مصراعيه في خلق مفهوم للمثقف لقبول كل التصورات والتعريفات، وفي نهاية المقالة تحيل الأمر برمته لإشراك غيرها من الكتاب وتوريطهم للخوض في قضية تعريف المثقف، وإن قصدت كاتباً بعينه بمفردات رسالتها الرمزية فإن التعميم لا ينقص من المهمة شيئاً حين تقول: (وإني أحيل السؤال إلى الكاتب نفسه ليقول لنا من هو مثقفه وما هي علاقته بالجماهير “التي يرى أنها ليست جديرة بالاحترام”..؟!)(17)

وليست إشكالية الوصول إلى تعريف المثقف وحدها التي تعاطت معها في طرحها الفكري، بل وامتدت وتوسعت لتولّد سؤالا أكثر شمولية حين تقول: (كيف نعرّف الثقافة؟ ومن ثم كيف نحدد موقعها في البناء الاجتماعي وسلم القيم العامة؟)(18) 

ولم تتوقف عند ذلك بل زادت من نطاق استعراضها لمؤثرات الثقافة حين تعرضت للإرث الديني ودورها الفكري في توسيع دائرة التخلف في المجتمع حين قالت:( يشكل التراث الديني واحدة من أهم وأخطر دوائر حركة الفعل التآمري، ومن ثم الثقافة اليمينية المأزومة. وذلك لارتباط هذا التراث بمسائل الاعتقاد التي يغلب عليها الطابع الميثولوجي في العالم الثالث بشكل خاص وبالعواطف البدائية لإنسان هذا العالم الذي يستجمع بساطته وأوليته ونقاءه وفطرته في موقفه الاعتقادي الذي غالباً ما يتصف بالتسليم والرضوخ والولاء غير الموضوعي.)(19) 

وبعد أن تشير إلى استغلال القوى الأجنبية الاستعمارية لهذا الإرث بعد تحريفه وتزويره لخدمة أغراض وعلاقات الاستغلال والعسف وزرع الفتن والأفكار الهدامة، التي جميعها أوجدت تناقضاً بيَناً وصارخاً بين ثقافة الشارع الوطني وبين ثقافة القوى القمعية المهيمنة على السلطة تؤكد بأن توصيف علم الاجتماع الدقيق لهذه الفجوة هو “التخلف الثقافي”.

وتختتم هذا الجزء الذي تناولت فيه الشأن الثقافي بإسقاط تنظيرها وتحليلها على الحالة الليبية فتقول (إذا ما أعيدت قراءة ظاهرة الثقافة اليمينية المأزومة ليبياً – كنموذج عربي إفريقي من نماذج العالم الثالث – فإننا سنجد الاستعمار الايطالي والادارات الاستعمارية المتعاقبة لم تستطع تمسيح الليبيين لكنها استطاعت أن تخلق ولاءات كاملة لدى القوة اليمينية في شكل ارتباطات مصلحية عبرت عنها الطبقة الطفيلية التي خلقتها في مجال الخدمات بشكل خاص، وارتباطات ثقافية تراوحت – وتتراوح – بين اللغة وبين الوجدان المستعرب.)(20)

(6)

حوالي أربعين سنة مرت على صدور كتاب (في الحرب والثقافة) للأديبة فوزية شلابي ولكن الأحداث التي مرت بالعالم كافة، وعصفت بليبيا في الآونة الأخيرة على وجه الخصوص تشهد بأن تحليلاته لمفاهيم (الحرب) و(السياسة) و(الثقافة) لازالت متفاعلة وظاهرة على سطح المجتمع الدولي، وكذلك في سلوكيات الأفراد ومستويات تفكيرهم ودرجات تخلفهم ومدى استيعابهم للمتغيرات كافةً، وأيضاً آلية ممارساتهم وتعاطيهم مع السياسة العربية والعالمية، وإن تغيرت أدواتها على الساحة العربية، وتبدل الأشخاص والكيانات والحكام والزعماء، وهو ما يؤكد بأن الكتاب حمل رؤية مستقبلية ثاقبة وقراءة موضوعية عميقة للفكر الإنساني بكل تأثره وانعكاساته في السياسة والحرب والثقافة، وهو ما يجعله يستحق المطالعة والنقد كذلك.


هوامش:

(1)  في الحرب والثقافة، فوزية شلابي، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، الطبعة الأولى، 1984م

(2)  في الحرب والثقافة، مصدر سابق، ص 5

(3)  المصدر السابق، ص 5-6

(4)  المصدر السابق، ص 6

(5)  المصدر السابق، ص 6

(6)  المصدر السابق، ص 7

(7)  المصدر السابق، ص 7

(8)  المصدر السابق، ص 11-12

(9)  المصدر السابق، ص 11-12

(10)  المصدر السابق، ص 9

(11)  المصدر السابق، ص 29

(12)  المصدر السابق، ص 29-30

(13)  المصدر السابق، ص 43

(14)  المصدر السابق، ص 44

(15)  المصدر السابق، ص 68

(16)  المصدر السابق، ص 68-69

(17)  المصدر السابق، ص 69

(18)  المصدر السابق، ص 82-83

(19)  المصدر السابق، ص 95-96

(20)  المصدر السابق، ص 97-98

مقالات ذات علاقة

مراجعة كتاب الشخصية الليبية… ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة 2/2

فوزية بريون

ضباط عسكريون من جنزور في الجيش العثماني

المشرف العام

خبز على طاولة الخال ميلاد لـ محمد النعاس

المشرف العام

اترك تعليق