بوابة الوسط
وصفتها كتب الرحالة العرب قديماً بالمدينة البيضاء وكانت محوطة بسور بسبعة أبواب عتيقة يدخل منها القادمون إليها راجلين أوراكبين، مقيمين أو عابرين، آملين أو محبطين. تطل من جلال سراياها الحمراء ومن علو أهلة مآذنها على بحر أشاع قراصنته الرعب زمناً في القلوب. لكن طرابلس مدينة كغيرها من مدن الدنيا تغيرت مع مرور الوقت وتلاشى بياضها وتمددت سرطانياً في كل الجهات وتكاثر أهلها وانتشروا خارج السور وتغيروا، وابتلع الزمن أبوابها السبعة مع ما ابتلع من أسبارها وبساتينها ونخيلها وزيتونها وكرمها وأحال الإهمال والهجران سورها ومدينتها القديمة إلى أطلال وخرائب، لكن بحرها ظل بعمق صمت زرقته شاهد عيان على ما تركه الزمن من آثار والغزاة من جراح وآلام عبر مختلف العصور.
كلما جئتها من حين لحين زائراً كلما وجدتها تزداد غرقاً في وحل فوضى ازدحام طرقاتها وشوارعها وأزقتها بحركة المرور الناجمة عن تزايد أعداد السيارت بشكل مأهول وما تحدثه من اختناق لا يطاق مضافا إليه انعدام صبر السائقين من الجنسين وعدم احترامهم لقواعد المرور والإشارات الضوئية وأيضا عدم مبالاتهم بحقيقة أن أرصفة الشوارع صممت ووجدت لاستخدام الناس لا لتكون محطات وقوف للسيارات. تفاقم الأزمة المرورية واختناقاتها اليومية في شوارع العاصمة وما تسببه من كوارث وفق الإحصائيات الرسمية هو جزء من أزمة عامة تشمل أغلبية المدن الليبية.
أحياناً من شدة ضيقي وتبرمي بها أجدني أعقد مقارنة بين الانسدادين في الحركة المرورية والعملية السياسية ولا أذيع سراً إذا قلت إنني في كل مرة أزداد اقتناعا بأن حل الانسداد في الأزمة السياسية ربما يكون أيسر منه بمرور الوقت من حل الانسداد في أزمة حركة المرور!
هذه المرة حين وصلتها بعد غياب ليس طويلا وجدتها مازالت – حتى بعد ثماني سنوات على تخلصها من ربقة استبداد عسكري دام أكثر من أربعة عقود زمنية – رهينة أوضاع معيشية صعبة، وأوضاع سياسية تراوح في مكانها، وأوضاع ثقافية أفضل قليلاً نتيجة جهود ومبادرات فردية وأهلية، لكن طرابلس مدينة تشعرني بالأسى إن لم يكن الغضب لأنها مدينة يستيقظ فيها البشر صباحا ولا يجدون صحفا يقرأونها مع قهوتهم وأن العديد من مقرات مكتباتها العامة قد اختفت تماما أو تحولت إلى مخازن تجارية مثلها مثل مقرات دور السينما والفرق المسرحية وتراكم غبار الإهمال والنسيان على حدائقها وأشجارها.
ما أطلق عليه اسم التدابير الاقتصادية التي تم الاتفاق عليها مؤخراً بين المجلس الرئاسي والمصرف المركزي لم تؤت ما توقع منها من انفراج ومازالت أزمة نقص السيولة مصدراً لمناظر قذى للعين ممثلة في استمرار اصطفاف وتزاحم المواطنين في طوابير أمام مصارف منهكة وتدار بطرق تجاوزها الزمن. وما أطلق عليه اسم الترتيبات الأمنية ليس في حقيقة الأمر إلا تغييرات شكلية في العناوين والأسماء وأن الحقيقة التي لا مفر من مواجهتها هي أن الجماعات المسلحة مازالت تطبق بأيادٍ من حديد على الأوضاع وتعيق مسار أي عملية سياسية غايتها وضع حد لمعاناة البلاد والعباد.
هذا العام، وعقب سنوات من حظر فرضته جماعات دينية سلفية ومسلحة على الاحتفال بمولد النبي محمد صلوات الله عليه رأيت سماءها صباح المولد ترتفع مزدهية على إيقاعات مهرجان عظيم من الدفوف، والباز والزّل والنقرة تقوده تموجات أنغام الغيطة وتلون ضربات النوبة فأحسست وكأن روحا قديمة قد حطت فجأة بعدغياب على قلب مدينة فقدت لسنوات طمأنينة وسلاماً كانا لايفارقانها.
لكن هذه البهجة قصيرة جداً والروح التي أحسستها تغمر المدينة سرعان ما اختفت لتعود الأمور في اليوم التالي إلى ما كانت عليه من تذمر وشكوى وضجيج اختناقات المرور الأمر الذي يجعل الأسئلة تطل بأكثر من علامة استفهام وأكثر من علامة تعجب على ما حدث وما زال يحدث.