يقول ديبارو: “الكتاب صديق لا يخون”. ومن أجمل الكلمات التي قالها الكاتب المعروف فرانز كافكا عن الكتاب: “إذا كان الكتاب الذي نقرؤه لا يوقظنا بخبطةٍ على جمجمتنا فلماذا نقرأ إذاً؟ إنّنا نحتاج إلى تلك الكتب التي تجعلنا وكأننا قد طُردنا إلى الغابات بعيداً عن الناس؛ على الكتاب أن يكون كالفأس التي تحطم البحر المجمّد داخلنا”.
وقد قيل في الماضي: الحياة كتاب على الأرض، فلا تهمل قراءته، ولا تُصدق كل مافيه، وقد يأتي يوم تكتشف فيه أن حياة واحدة لا تكفي لقراءة جميع الكتب التي في المكتبات أو المحفوظة في ذاكرة حاسوب ما، وربما تقرأ كتاباً جيداً تلتهمه مثل وجبة مفضلة، كما تلتهم طبقاً من البطاطا المقلية، وتشعر بأنك تريد إعادة قراءته، لأنه لمسَ شيئاً داخلك وأضاف لك شيئاً جديداً، وهناك كتاب مملّ لا تريد أن تكمل قراءته، بل إنك تودّ أن ترميه من أي نافذة قريبة.
لا أجمل من أن تجلس قرب مدفأة في الشتاء وبيدك كتاب جديد، تفتحه بشغف، تشمّ صفحاته تستقبل عبق الحروف الجديدة، تخرج من جدران غرفتك لتجلس بين جدران صفحاته، وتتخيل قليلاً كيف ستكون حياتك بعد قراءته؟ هل سيتغير فيك شيء ما؟ هل ستقلع عن أي فعل كنت قد اقترفته بلحظة ضعف؟ هل ستقوم بفعل عادة جديدة، بأن تقرأ أكثر بنهم، وتشتري مزيداً من الكتب، بدل زجاجات الكحول أو عُلب السجائر التي تضر بصحتك مثلاً؟
فأي كتاب بنظري يفيد بشيءٍ ما، وإن كان سيئاً، ولم يوفر لك المتعة التي كنت تنتظرها منه، لا بدّ من أن تتعلم منه شيئاً، أو أي حكمة ولو كانت بسيطة.
ستبدأ التجوال بين سطور كتابك الجديد، وستزيح الستائر الحريرية عن نوافذ الفصول، وستقطع المسافات وأنت تمتطي البساط السحري الذي سينقلك إلى بلاد بعيدة لم تزرها، وربما لن تستطيع زيارتها في المستقبل. قد تقرأ فتتغير أفكارك فتصبح قديساً، ملحداً، طاوياً أو مندائيا. تخرج من جلدك لترتدي جلد السماء. قد تقرأ عن ملايين الناس من الهندوس الذين يستحمون عراة في نهر الغانج المقدّس، ليتطهرون من ذنوبهم، ذلك النهر الذي ينبع من جبال هيمالايا، النهر السام والمليء بالقذارة والفضلات. حيث يعتقد الحجاج والوافدون أن الاستحمام عند ملتقى نهري الجانج ويامونا مع نهر ساراسوني الأسطوري يمنح المغفرة والخلود للكائن البشري.
قد يأخذك الكتاب إلى قصص الرعب والإثارة لتواجه الخوف والقلق، الحب والكراهية، وتعرف عن الأفاعي التي تخرج من أوكارها في الليل، لتندس في جيبك. عليك أن تبتكر طريقة ذكية للولوج إلى متاهة الكلام التي رسمها الكاتب بحذق ودقة متناهية. فقد يقدم لك وجبة شهية، ويدس لك فيها سمّ الحكمة، يسقيك فلسفته عن الحياة، أو يشرح لك كيف تقضم سكر الموت.
في الكتاب قد تمشي من درب إلى درب، وتنحدر من هاوية إلى هاوية، يأخذك من يدك لتقابل القتلة وجهاً لوجه، وربما تصافحهم فتلوث يديك بدماء الضحية. لو قرأت رواية “صمت الحملان” كما فعلت الممثلة الأمريكية جودي فوستر حين مثلت الفيلم مع أنتوني هوبكنز الذي لعب دور الطبيب النفسي، وآكل لحوم البشر. فيلم أثار إعجابي ورأيته غير مرة.
وقد تنحني مع قديس في معبد مريب، فتصبح لك جبهة ناصعة، قد يسرق عمرك في كتاب غريب، ويعيدك طفلاً صغيراً؛ تختبئ وراء شجرة لترعب العصافير. كل هذا قد يحصل لك وأنت تجلس على كرسي مريح من الجلد، تقرأ كتاباً مثيراً، وتحتسي كوباً من الشاي.
ليس للكتب أبواب أو قلعات مؤصدة، الكتب نافذة عريضة مفتوحة على العالم، قد تكون عارية تماماً مثل فتاة ليلٍ تعمل ببار في لاس فيغاس، تفضح صفحاتها الاحتضار المستتر للمدن المتحضرة المزينة بالأضواء والألوان البراقة، حيث تكتشف الزيف الحضاري الذي تعيشه الدول الغربية، التي قد تخدعك بأسلوب حياتها المتحرر والخالي من القيم والأخلاق، فإذا لم يحالفك الحظ لزيارة البلدان الأخرى، سيبقى الكتاب هو نافذتك الوحيدة التي تنظر منها إلى العالم الآخر الذي لا تعرف عنه الكثير.
فمثلاً قد تُصعَق وأنت تقرأ بأن المرأة الجميلة مثلاً تباع في بلاد النذرلاند أو هولاندا، في صناديق من البلور وهي عارية بآلاف الدولارات أو اليورو، وقد تقرأ عن المؤمرات والحروب التي تحاك تحت الطاولات، وسكان البلاد ينعمون بسبات عميق، من خلال قراءتك للكتب، ستتعرف على عادات وأديان ولغات وحضارات وبلاد غريبة، لم تكن تعرفها من قبل.
ومن جهة أخرى، قد تجد أن الكتب الجيدة والجريئة، ليست إلا سيدات جميلات، لا يحببن ارتداء المساحيق، ويفضلن أن يظهرن بكل الحقيقة الواضحة، وتلك الكتب قليلة جداً، وقد يتم منعها كما منعت كتب جورج أوريل في الثمانينات الكاتب البريطاني الشهير الذي كتب كتاب “مزرعة الحيوان” الشهير 1949، وهو من الكتب الغربية التي مُنعت في الاتحاد السوڤياتي، كما منعته دولة الإمارات، وذلك لأن فيه خنزير يتحدث، وهذا يتعارض مع التعاليم الإسلامية. كانت الرواية مثالاً من الأدب التحذيري من الحركات السياسية والاجتماعية التي تطيح بالحكومات والمؤسسات الفاسدة وغير الديموقراطية التي تسقط في الفساد والقهر، وضربت أمثلة واقعية من المستعمرات الإفريقية السابقة، وأكثر الطغاة الذين يخافون على مناصبهم لا تناسبهم مثل هذه الكتب التي قد تثير الشعوب في الشرق والغرب.
من الكتب الممنوعة كذلك، الكتاب المثير للجدل، رواية الكاتب البريطاني سلمان رشدي “آيات شيطانية”، وقد اتهم فيها بالإساءة للدين الإسلامي، وقام المتظاهرون بحرق الكتب في الشوارع، ومنعت عربياً في الكويت ومصر، وقد تعرض الكاتب للتهديد بالقتل.
والجدير بالذكر أن هناك كتبا مُنعت وأحرقت في الصين، لأنها تتحدث بحرية مفرطة عن الجنس مثل كتاب شنغهاي بيبي، ورواية الزواج من بودا للكاتبة الصينية (وي هيوي)، حيث تمت مراقبتها، وتغيير بعض ما ورد فيها من سقطات لاتصلح للنشر، أما الكتب العربية التي منعت وأحرقت في الماضي: كتب الدكتورة المصرية الشهيرة نوال السعداوي التي كانت رمزاً للكفاح النسوي والتحرر ومواجهة الفقهاء ومحاربة التمييز وتسليع الإناث، ورفض الثورات الفقهية والنصوص الدينية، وقد منعت كتبها في مصر والسودان والسعودية، كما تعرضت الكاتبة الطبيبة للسجن في فترة من الفترات وكتبت من وراء الأسوار. وكتاب أولاد حارتنا للكاتب المصري نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للأدب حيث رأى فيها المسؤولون تطاولا على الذات الإلهية، وسخرية من قصص الأنبياء.
كما أذكر من الكتب الممنوعة الحرب القذرة للكاتب حبيب سويدية الذي أثار زوبعة كبيرة منذ صدوره 2003، وكان يتحدث عن ضابط سابق في المخابرات الخاصة في الجيش الجزائري، واضطر المؤلف أن يغادر بلاده إلى فرنسا.
أما أغرب الكتب في العالم فهي مخطوطة فيونيش، وهي مخطوطة كُتبت باليد وفي رسومات تعود إلى القرن الخامس عشر. ومخطوطة سيراڤيني، وهو كتاب مصور مكتوب بلغة مجهولة، والكتاب الثالث يدعى سويجا أو كتاب الداريا وهو تعويذات سحرية تابعة إلى السحر الأسود كان يملكه John John، ومخطوط مندوزا التي تعود إلى حضارة الأزتك التي كتبت بلغة النواتل باستخدام الرسوم التوضيحية. أما الرواية الغربية فهي تلك التي كتبها هاربال بجملة واحدة، وهي عن رجل يلتقي بست نساء ويتحدث معهن عن حياتهن الماضية كانت تسمى “دروس في الرقص للمتقدمين في العمر”.
في النهاية أقول إنه لا غنى لنا عن الكتب، والكتب الورقية بالذات التي أفضلها على الكتب الالكترونية التي ذاع انتشارها وصيتها جداً الآن مع اندلاع ثورة التكنولوجيا، فللكتاب الورقي جماله ورائحته وملمسه الذي لا يقاوم.