موسى محمد الفاخري
جلس الأولاد الصغار أمام باب بيتهم ليلة عرفة، والأم بنظراتها القلقة تتابع الشارع مثل صغارها عبر النافذة، جميعهم ينظرون إلى طرفي الشارع، لعلّ والدهم يظهر أمامهم وهو يجر خلفه شاة العيد.
مرّت الساعات ثقيلة، فقيرةً لا تحمل شيئًا غير صوت التكبيرات التي تلهمهم السلوان. تستمع الأم بقلبها، وتردد بصوتها العذب من أعماق تشع بالأمل: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إلَه إلَّا الله، الله أكبر الله أكبر وللهِ الحمد).
جلست مطمئنة؛ أن الكبير الرؤوف بعباده لن يحرم فلذات كبدها من الفرحة عامًا آخر، جلست تحمد الله وتستغفره، وتردّد في سرها: (لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). وما إن أكملت ما كانت تردّده حتى سمعت نداء أولادها يرددون بصوت واحد: (بابا جاب حولي).
فخرجت تستقبل زوجها وصغارها والضيف الذي في عداد النحر ببهجة وسعادة، وما إن اقترب الجمع من الباب، حتى رأت الزوج يجر الشاة ويضحك، والأطفال يدفعونها من الخلف وهم يضحكون أيضًا، ومن شدة السعادة خيّل لها أن الشاة أيضًا ما إن رأتها حتى ضحكت لها.
وفي لحظات مشحونة بالضحك واللعب وثّق الأب الشاة ووضعها في صندوق السيارة الخلفي، وبدأ الصغار يخرجون ما يحتاجونه لرحلتهم الشوائية من البيت، ويضعونه في صندوق السيارة بجانب الشاة، وما إن تمّ حمل الحقائب والمعدات وغيرها في السيارة حتى ركب الصغار وأمهم، وأغلق الأب باب البيت، وركب السيارة وشغل المحرك وخرج من المدينة هاربًا من التيار الكهربائي العاطل، سالكًا طريق المزارع وهو يغني: “العيد فرحة” والصغار يضحكون ويرددون: “مااااع، مااااع”..
أشرقت شمس العيد، وعادت البسمة على وجوه الصغار من جديد، الأم تجهز الخبز والسلطة والمشروبات وتأمر كل واحد من الصغار بمهمة ما، والأب يحمل في يمناه السكين وبيسراه يجر الخروف السمين. وفي لحظات عائلية بمناسبة عيدية سعيدة، تمَّ النحر وبدأ حفل الشواء، الأب يشوي اللحم ويمرره للأم التي بدورها تضعه في الخبز وتناوله لصغارها الذين يأكلون ويتلذذون في سكون تام. فما أجمله من مشهد حين ترى فلذات كبدك تلتهم الكبد!
انقضى النهار فلم يشعر أحد بهروب الهارب، وما إن غربت الشمس حتى شعروا بفقدانه، حاول الأب تشغيل الكهرباء لكن دون جدوى. مرّ اليوم الأول والصغار نائمون والشبع يطغى على وجوههم، والوالدان يفكرون في غياب الهارب، وهم في حيرة من أمرهم.
مر ظهر اليوم الثاني دون كهرباء في العيد السعيد، وما إن استقصى الأب عن الأمر حتى علم بأن الكهرباء لن تعود إلا بعد انقضاء أسبوع بعد العيد؛ وذلك بسبب سرقتها. فما كان منهم إلا أن يقوموا بالشواء لعشاء اليوم الثاني. وفي صباح اليوم الثالث شعرت الأم برائحةٍ عفنة بدأت تتسرب فيما تبقى من لحم شاتهم، فأخبرت الأب الذي استشاط غضبًا وأضرم النّار دون تفكير.
صار الأب يشوي بغضب كاد يحرق اللحم حرقًا، والأم تناول الصغار دون توقف، مرّت الساعات ولا تزال العائلة تشوي وتلتهم اللحم دون غاية ولا نية، وبدأ الصغار يبكون من شدة الوجع الذي أصاب بطونهم، إلا أن الوالدين لم يتوقفا، فصارا يشويان ويلتهمان ويشتمان.
إلا أن التخمة كتمت على أنفاسهم، فاستلقت الأم وغطّت في نوم عميق بجانب صغارها، والأب أيضًا مستلقٍ وواضع يده على بطنه؛ من شدّة الوجع.
وبعد ساعات حيث انجلى الليل سمع الأب صوت نباح كلاب، فتيقن أنّها كانت تشتم رائحة الشواء وبدأت تزحف باتجاههم، وكان الصوت يزداد قربًا منهم بين لحظة وأخرى. فرفع رأسه ونظر في العتمة، حتى رآها تقفز من فوق السور وتقترب بسكون تجاه اللحم. لحظة بلحظة يزداد عددها، فمرة رأى كلبين، ثم تضاعف العدد حتى صارت أربع كلاب، وما إن حاول جاهدًا أن ينهض ليبعدها إلا أن وجع بطنه لم يسمح له، فصار ينظر للكلاب وهي تسحب اللحم بأنيابها الحادة وتلتهمها أمام عينيه، فرفع يده مشوحًا لها، لكنها لم تكترث له، فنزلت دمعة من عينيه وقال واصفًا وضعه في هذه البقعة: (رزق الأسود تلتهمه الكلاب)!