ذاتَ نهارٍ جميل بَسَط ضحوته على الأطراف الشرقية للجبل، وقف عمي الشيخ على حجرة كبيرة، قرب بيته الحجري المطل على الشارع المنحدر إلى مدخل القبيلة.. يرقب بعض المارة عن بعد، وبعض الحيوانات في أسفل الوادي ترعى قرب بعض زيتوناته. كان عمي هذا معتمَداً رسميّاً شيخاً للقبيلة، رغم أنه لا يقرأ ولا يكتب.. أقصد لا يقرأ ولا يكتب بلغتنا التي نعرفها.
أما بلغته هو، فهو يكاد يقرأ ويكتب كل شيء في القبيلة! الناس، كباراً وصغاراً.. يعرف أسماءهم، وأعمارهم، وأنسابهم جميعا.. الأملاك، يعرفها ويعرف أصحابها؛ منازل، ومناقع، وصِيَر، وأشجار، ودواميس، وأحجار، وشُعَب.. ومواجن، وكهوف، وزروع، وأعشاب، وسواقي، ومساقي، وأدوات حراثة وحصاد وبناء، وبنادق قديمة، بأنواعها.. فضلا عن أسماء الأماكن والبقاع، بقعة بقعة.. والتواريخ والأخبار والأحداث، والقصص والحكايات، والبطولات، والفواجع والنواجع، والأمثال، والحِكَم.. وكلام (امزرّب.. امسمّس.. ايبّس).. فضلا عن سرعة البديهة، وأحيانا الصمت الرهيب، والنظرات الناطقة الفاتقة…
شيءٌ لله عجيباً! سمعتُه منه، ورأيتُه بأمّ عيني، عديد المرات…
اقتربتُ منه في ذاك الضحى، وقد أفزعني كلب هاجمني في بعض المواضع، وكنتُ آنذاكَ صغيرَ السنّ زائراً للقبيلة من طرابلس. أخبرتُه بالأمر، وذكرتُ له الموضع.. لم يسألني عن شكل الكلب، لونه، أو حجمه مثلا.. بل سألني: “الكلب نبح عليك والّا كرّخ؟!”.
قلت: “بل كرّخ ياعمي”.. قال: “كرخ ياااسر؟”.. أجبتُه: “نعم”.
قال: “آ.. هادي كلبة فلان بن فلان.. ما عندناش من ايكرّخ في البلاد ياسر كان هو”..!! تعجبتُ للأمر، حتى نسيتُ ما أصابني من خوفٍ وهلع. وأيقنتُ أن عمي سيتولى أمر تلك الكلبة المزعجة.
بعد سنين.. وقد كبرتُ.. وقرأتُ شيئاً عن الحيوانات.. عرفتُ أن الكلاب الأليفة تأخذ من طباع أصحابها، عبر محاكاة سلوكهم، وتتصرف أحيانا مثلهم، بل هناك من العلماء من يرى أن الكلاب تشكل انعكاسا لطباعنا الحقيقية!!!
طرابلس ، 4 نوفمبر 2017