بفسحة الفكر الحر كرس الإمام الشافعي لمدرسته العتيدة “حق الاختلاف” لمن هم دونه، وعلل الاختلاف الفكري والاجتهادي كونه “نعمة” تلطف الحياة، رغماً عن تجاذبات جلالة السلطة التي كانت تمارس العنف المعنوي والمادي على من لا يدين لها بالسلطان ولا بالإمامة الدينية والمذهبية.
يسجل التاريخ ان “حق الاختلاف” لم يتسرب من نطاقه الأكاديمي في مرحلة التأسيس ليترسخ في الذهنية العربية، بحيث لازال ينظر إليه باعتباره شائبة ونهجا مارقا على وحدة النسيج العام كما فى مفاهيمنا المعاصرة اليوم. ففي رحلة تاريخ أمتنا يسجل لنا بأننا قد اضعنا كثيراً من مفاتيح ممارسة حق الاختلاف، والتي من أهمها ما يعرف فقهياً فى علم الخلاف “بالقاعدة الذهبية” التي تنص على الرحمة في ما لا يتفق فيه، ويُسجل للإمام الشافعي قوله الشهيرة “إن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”. ويذكر التاريخ ايضاً أن الإمام مالك رفض اقتراح بلاط الخلافة الإسلامية حينها بأن يعمم كتابه الموطأ فى ديار الإسلام احتراماً لاختلاف أي اجتهادات فقهية مغايرة للموطأ موجودة بمناطق أخرى من الدولة.
الاختلاف هو تباين في الرأي يمنح فسحة للحوار، بعكس الاختلاف الذى يشمل دلالة بروز عنصر الإرادة والاقتناع بالحد الفاصل تجاه الآخر، مما قد يولد خصومة مفتوحة قد تجر للتصعيد وللمواجهات وترسخ لمباديء التعصب والعنصرية والكراهية.
ابو حيان التوحيدي كان قد أسس في عصره لأسلوب الحوار عبر فكرة المناظرة بوصفها شكلاً من أشكال التواصل المبني على التعارض لأجل بناء معرفي وادبي، بعيداً عن الإقصاء والتزمت. فكتابه الإمتاع والمؤانسة، على سبيل المثال، يُعد رؤية رصينة لخلق أدبية فنية قائمة على إتاحة الفضاء الرحيب لتدبير قضايا عالقة وساخنة في عصره، إذ كان وقتها النزاع قائماً بين شعوب وملل الدولة العباسية، وقد اسهم هذا الاختلاف بين مكونات تلك الدولة فى تأجيج التعصب والعنصريات ونعرة الأجناس، وانعكست جميعها في الصراعات والسجالات على ميادين الإبداع الإنساني، وساهمت هذه الحالة المجتمعية والسياسية بشكل كبير بانخراط المثقفين في مناقشة هذه القضايا، واهمها العنصرية والشعوبية، كتفضيل الأعاجم على العرب، او حتى العكس. من هنا كانت منطلقات الأنسنة في الإسلام، والتي لم تستمر طويلاً كنزعة فكرية وتوجه فلسفي يفسر جزءا من تخلفنا الحضاري المعاصر.
اليوم، سقطت منا أدبيات الاختلاف بسبق الإصرار على ضياعها، وبالتربص بمراحل تطورها فينا. فصرنا شعوبا تنظر للوجود بعين واحدة، وبإلحاح مدهش على إسقاط العقل من حسابات الأيام وطبيعة الأشياء، وأمسى “الآخر هو الجحيم” للاأنا المنغلقة على ذاتها ومصالحها الضيقة. وما فشل الحوار الليبي-الليبي بالقاهرة مؤخراً إلا كشفا جديدا لمدى المحنة والعوز لعقلية جسورة تدرك بأنها بصدد حوار استقرار وطن تشيده من العدم، أكثر من حوار على كرسي رئاسة أو منصب وزارة.
معضلة السياسة الليبية تكمن في هذه المحنة الإنسانية أساساً كثقافة- دون الإقلال من دور التدخلات الأجنبية-، فالاختلاف يعد خلافاً يقوم على المفاضلة المشخصنة للأُمور المتعثرة، وفي القضايا العالقة، رغم أننا كليبيين نعد في حالة تجانس ديني ومذهبي وإلى حد كبير تجانس ثقافي، فلا نحن، راهناً، بشعب متعدد الشرائع، من هنا تتجلى عدم منطقية التناحر الليبي-الليبي مادياً ومعنوياً، ويدفع بالأزمة الليبية، بذات اللحظة، تسيس بان تكون عبثية خالصة تصب فى عدمية مجنونة لليبيين، مبنية على ذهنية حبيسة لتاريخ جهوي لم يفكك ويحلل علمياً، وسجينة عقلية لازالت لم تدرك نعمة تمازج الفضائل ضم حالة الاختلاف السياسي المعصرن، الذي يرتفع بمستوى اللغة كحكومة ومعارضة، ويتسامى فوق الصراعات الطارئة، ويركز موضوعياً على المخارج الممكنة للأزمات التي يعيشها المواطن ويتلاشى فيها وطن. إن الارتكاز على مباديء محددة وأهداف واضحة يغني عن التصعيد والبلبلة وخطاب الكراهية المنتشرة كالفواكه الموسمية على مدار العام بالبلاد المنهكة.
ليس سهلا علينا أن نعي محنتنا ما لم ندرك أننا شعوب عشقت العيش وحيدة بنمطية الاعتقاد بأن – الغير – يجب أن يعزل أو يجتث لكونه مخالفا، وأنه يشكل خطراً غازياً، فلا من سبيل إلا مواجهته بمفهوم الغلبة وغنائم متاعه، وهذه هى لغة الانحطاط المعاصرة. لقد باتت العودة للتوحيدي كإنساني ضرورية في مناهجنا التعلمية على الاقل، عسى أن تأتينا أجيال أفضل منا تعي أولويات الحوار، وآداب المعاصرة، وفنون العيش المشترك في “وطن للجميع، والدين لله”.