قال آلان باديو:”أخبرني ما هي النصوص الأدبية التي تقرأها وأنا سأخبرك إلى أي نوع من الفلاسفة تنتمي أنت”.. يعد الأدب مصدراً ثابتاً للتجارب الفكرية، وهو أحد المجالات التي يعمل فيها ولو بطريقة مثالية في بعض الأحيان، ووجود الأدب نفسه يمنحنا فرصة التفكير في فلسفة لا تقترب من فلسفة النهايات، نهاية التاريخ ونهاية الفلسفة، هناك تحالف بين الفلسفة والأدب، وهذا ما يميز الفلسفة المعاصرة، يمكن الوقوف على الكم الهائل من القراءات الأدبية في كتابات فلاسفة القرن العشرين، بل إن كتابات هؤلاء يتم التعامل معها كنوع من القراءة الخاصة والقوية للأدب، لقد حملت الفلسفة المعاناة الأكثر إيلاماً وهي الهجر و التجاهل، ولم تجد العزاء إلا في الأدب، ففي حين كان الجميع يتكلم عن موت الفلسفة كانت هذه الأخيرة تنتعش في غرف كتّاب الأدب و بين أعقاب سجائرهم الكثيرة، وكانت كتابات الفلاسفة أنفسهم تبحث عن الفلسفة في ثنايا الكتب الأدبية؛ أفضل مثال على هؤلاء الفلاسفة هو جيل دولوز، كان دولوز يبحث عن استخدام منتج للآلة الأدبية وعن الطاقة الثورية فيها، وقد عزز هذا البحث بقراءة تجريبية، و طرح أسئلة جديدة على القاريء وليس النص، ما الذي تشكل بعد القراءة؟ ما الذي ظهر بوضوح إلى حيز الوجود بعد الانتهاء من القراءة؟ ما الجديد؟ لم يعد الأدب مع دولوز درساً في الأخلاق، ولا مكان البحث عن قدوة في الحياة، لقد كسر دولوز كل التقاليد المعروفة سابقاً لممارسة القراءة، النظر في الطريقة التي يتم بها استخدام الأدب زاد من صلاحيات وجود الأدب و الفلسفة، هذه النظرية التي تعتمد التجريب والابتكار والارتجال موجهة نحو نتائج القراءة و ليس القراءة في حد ذاتها، نتائج يجب أن تكون بعيدة عن النتائج التقليدية والمعتادة، كل كتاب بالنسبة لدولوز هو آلة ويجب أن نسأل أنفسنا من خلال القراءة:هل تعمل هذه الآلة؟ وكيف تعمل؟ إذا لم تكن تعمل فعلينا ترك الكتاب والبحث عن كتاب آخر، الكتاب يعمل عندما نكون قادرين على الاستفادة منه في مجالات أخرى في الحياة اليومية، استخدام النص يجب أن يكون لتحقيق أهداف شخصية و اجتماعية و سياسية، هذه القراءة لا تدعي امتياز الوصول إلى الحقيقة، هذا النوع من القراءة لا يهتم بأن نفس النص يعني أشياء مختلفة لقراء مختلفين، أو أن المعنى في هذا النص غامض وبعيد المنال، بل بالسؤال عن التأثيرات التي يمكن أن يحدثها النص فينا إذا عمل بشكل صحيح، بهذه الطريقة ينتج النص عملاً جديداً وليس فقط معنى جديداً لم يخطر على بال الكاتب، هذه الطريقة هي تحرير لنا من التبعية للمعنى والحقيقة، أما فاعلية القراءة فهي لا تعتمد على الرأي أو التأويل بل على ما يمكن أن يفعله الكتاب وما يستطيع القيام به.. القراءة السيئة هي القراءة التي لا تستطيع جعل الكتاب يعمل، والقاريء السيء هو الذي لا يعرف الكيفية التي يجعل بها الكتاب يعمل، القراءة التي تغير قناعاتك فقط قراءة خشنة وغير مكتملة، القراءة التي تغير قناعاتك وتعمل بقناعات جديدة هي القراءة الطليعية والثورية، نتائج هذه القراءة تشبه اكتشاف البنسلين او اكتشاف المطاط، أمر يحدث بشكل عرضي وغير متوقع.. قد يكون الكتاب إجابة عن سؤال غير الذي كنت تبحث له عن إجابة، قد يكون طريقة في الحياة غير تلك التي كنت تبحث عنها، في أعمال زولا نكتشف نظرة ثاقبة على الكيفية التي تتشكل بها الطبقة الاقتصادية الفردية، الطبقة التي تلتهم كل شيء بشراهة مفرطة في قذارتها، بعد هذا الاكتشاف عليك أن تقرر العمل مع هذه الطبقة أو ضدها، أهمية هذا الاكتشاف مرهونة بما تستطيع القيام به، مرهونة بالكيفية التي تزيد بها من قوتك في مقاومة هذه الطبقة.. التجريبية في قراءة كتب زولا تمنحك فهماً نقدياً لظواهر اقتصادية و اجتماعية، وهذا الفهم يجب أن يتحول إلى عمل، هذه القراءة تفرض علينا أن نكون انتقائيين ونركز فقط على الكتب التي تهمنا، نركز فقط على النص الذي يعمل كالآلة المنتجة، أما باقي الأمور فهي لا تغير شيئاً، أما تفسير العمل وتفكيك بنيته من أجل تفسير قياسي فهو لا يفيد في شيء، التدقيق في الشخصيات، الرموز، السمات، الاستعارات، النوع، الفترة، لن يدخل هذه التدقيق النص للعمل، الملك لير مأساة إليزابيثية تحكي عن ملك ترك مملكته لابنتيه الحمقاوين، غطرسة لير وأنانية وحسد من حوله ينسج المؤامرة ضده فيسقط عرشه، موضوع المسرحية الحب والولاء والثقة، العاصفة على المملكة ترمز إلى جنون لير المتصاعد، معنى المسرحية هو أن البشر لعبة في يد الآلهة، هذه قراءة سهلة وضعيفة وتسمح للملك لير بالعمل، دولوز لا يهتم بمثل هذه العناصر و المكونات لأنها فقط تعطي تفسيراً أفضل، بل يهتم بالكلمات، الصور، الإجراءات، الترتيبات المكانية، الرغبات، الإمكانات، الهياكل.. وغيرها، من هذه المكونات يمكن معرفة كيفية استثمار الرغبة في المجال الاجتماعي من قبل السلطة، هذه المعرفة تحتم علينا العمل معها أو ضدها، قال فوكو: “يكاد هذا القرن أن يكون دولوزياً”، لقد جعل دولوز الفلسفة مسألة حياتية ويومية؛ من خلال الكتابة عن بروست وكافكا ود. هـ. لورنس وبيكيت ونيتشه وتي. أي. لورنس وهيرمان ميلفيل وميشيل ترنييه، وغيرهم كثير، وخلق من هذه القراءات عملاً، لقد جعلت هذه القراءات دولوز عملياً على يسار كل اليسار، و جعلته فيلسوف العصر بوضعه الفلسفة في مجال العمل و المقاومة.
المنشور السابق
المنشور التالي
محمد الترهوني
إصدارات:
العقلية العربية بين ماضوية التأسيس وحداثة البناء، مكتبة قورينا-بنغازي، 1995م.
الكتابة بالأشياء، مقالات، مجلس الثقافة العام-بنغازي، 2008م.
تاء مربوطة، الدار العربية للعلوم-بيروت، 2012م.
الأيدي الحزينة، مقالات، دار البيان للنشر والتوزيع والإعلان-بنغازي، 2020م.
اعترافات دانتي، رواية، دار البيان للنشر والتوزيع والإعلان-بنغازي، 2020م.
جورج باتاي .. فيلسوف الغائط، إلكتروني، 2020م.
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك