صديق إبراهيم عوض الكريم* | السودان
كثيراً ما أتساءل عن سر التحولات المفاجئة في “أخلاقيات” المجتمعات السودانية، لماذا كل هذا التحول السريع في تعريفه للأخلاق ومنظومة القيم ، بالتأكيد كان لحركة الاغتراب الكثيفة (الهجرة من أجل العمل) دور رئيسي بتأثّرهم وإستلهامهم لمجتمعات أعراب الخليج، فمنذ نهاية الستينات بدأت هجرة الكوادر و تكثفّت في السبعينات والثمانيات إلى أن بلغت أوجها في التسعينات والألفية الجديدة وإلى تاريخ اللحظة، بالأخص دول الخليج التي استحوذت على النسبة الأكبر بين المغتربين، وذلك لتقبّلها كافة أنواع العمالة السودانية من أصغرها إلى أكبرها مما أسهمت بشكل كبير في عملية “أسلمة خليجية” أو نُسخة “أخلاق” ذات معايير خليجية ساعدها في ذلك تنامي حركات الإسلام السياسي وصعود نجمها في تلك الفترة ، مما أدّى إلى وقوع خسائر عظيمة على مستوى الجهاز المفاهيمي داخل بنية العقل السوداني، فتسببت في شرخ كبير وخلط عظيم في طبيعة العلاقات بين الرجل والمرأة عامةً لم تكن لدينا في تاريخ مجتمعنا والتي كانت تَتسم بالمباشرة والتلقائية والبساطة الغير مُخلّة وبراءة تُحيّر الألباب ودواخل نظيفة ناصعة البياض، يحكي لي أحد كبار السن والمُعمّرين في إحدى قُرى( الدّامر) أنهم عندما كانوا صبياناً بالغين يلعبون في الليالي المقمرة مع الفتيات وهُنّ شبه عاريات لا يرتدين على أجسامهن سوى (رحط) يستر بالكاد عورتهن، وسط دهشتي بإقراره قاطعت حديثه بأنه بالتأكيد كنتم أطفالاً ليس إلا، فضحك وردّ علي بعد صمت قصير بأنهن (كانن بتعرسن تب ويَلدَن)، والشواهد والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.
أما التغيير الصارخ والمُدهش فكان في النظرة التجريمية ضد الخَمْر وشاربيها، بعد أن كانت عادة يستعملها الكبار والصغار خلال اليوم والليلة، يذكر الرّحالة “بوكهارت” في مذكرات رحلاته في بلاد النوبة و السودان (من أسوان حتى سنار) مارّاً بكل مدن أرياف السودان الشمالي والأوسط، فكانت ملاحظته للسودانيين الرئيسية أنهم يكثرون من شراب “البوظة” وهي التسمية القديمة لـ”مريسة العيش” ويفسّرون شُربها بالنهار أنها (تَقطع العطشة) وتخفف عليهم حرارة الجو المرتفعة فلم يكن يتورّع منها حتى رجال الدين ، بل كان شُربها مفخرةً بين الأبطال والشجعان وترمز للشدة والبأس فكانت عادة “المكوك” و “الأرابيب” أن يكرمون بها ضيوفهم و علية القوم في مجالسهم ، وإلى تاريخ قريب كانت تُشدُّ “بُرَم” و “أزيار” المريسة لحفلات الأعراس واحتفالات الزواج، يمكنك أن ترجع لمقطع فيديو تاريخي موجود على اليوتيوب لحفلة دلوكة للحكامة (حميرا) تتوسطها جرادل ” الطَلِس” تعلوها رغوة بيضاء تتهادى فوقها أكواب القرع بكل أريحية!
وبمناسبة هذه الخمر دُهشت وذُهلت وأنا أتطلع قبل فترة العدد الثاني لمجلة الكرمل التي كان يترأسها محمود درويش وسكرتارية سليم بركات، لابد أن هذا العدد كان مُثيراً للجدل كما هو مثيرٌ كخمر قصائده
النص الأول بعنوان (مرة سكر البحر) للشاعر الكبير ممدوح عدوان ، إذ عُرف عند السودانيين تفضيلهم شُرب الخَمْر على شاطئ النيل الذي يسمّونه (البحر) ويعقدون هناك مجالسهم وذبائحهم وموائد بهجتهم (بتعبير عدوان أيضاً) ولازلت أعتقد أن النيل يسكر معهم وليس ساكني النيل وحدهم السُمّار والنُدمان بتعبير إدريس جماع . فظللت أستمع لممدوح عدوان وهو يُسكِر بَحرهُ وأنا بِبحري !
” ….. …..
فتلاقينا وحيدين على كأس
طليقين على بحر
تعرّينا من الناس
وأقبلنا صغيرين
إلى مائدة البهجة فينا
وتخففنا من العمر الذي كبّرنا
حتى عرينا
كان لابد من الخَمْرة،
لكن كانت الخمرة فينا
وتطلّعنا إلى البحر فأسكرناه
ألقينا على الريح سلاماً …. فاشرأبّت
وسكرنا إذ تناجينا شروداً وعيوناً مترعة
وحرصنا أن نداري قطرات النشوة البكر
أتانا مطر ينقر شباكاً على البحر
و يرجو رشفةً منا تبلُّ الريق
لكنا أبينا
ويغار الله منّا “
النص الثاني للشاعر الكبير سعدي يوسف بعنوان” كحول” كتبه في بيروت بداية الثمانينات وهي المرحلة التي نضجت فيها تماماً حداثة قصيدة النثر العربية.
” انتظرتُ أن أدخل في اللّوعة
لا ! يا أيها الواقف كالجلاد
لا ! يا أيها الواقف في الباب،
لماذا ……. أيها الرأس الذي أحملُ؟
ما أوحش أن نبقى مع الزهرةِ
ما أوحش أن نبقى مع المصباحِ
ما أوحش أن نبقى مع النكران واللهِ …..
ولكني أريد أن أدخل في اللّوعة هذه الليلة
إحترت طويلاً
والمساء طويلاً
والمساء إمتدّ والصبح أتى…
واللّوعة البيضاء لم تأتِ
ولم تأتِ التي قبلت منها شعرها الأسود
لم يأتِ المُغني
والشيوعيين
والطفل الذي علمني في ملعب الإغريق
إمساك المسدس.. “
* كاتب وباحث في الفلسفة المعاصرة والنقد الأدبي.