لم يجع الليبي بعد ليتحرك، ولم تكسره الفاقة ليقوم، ولم يبن وجداناً للأرض ليتمرد لأجلها. الليبي، كعربي، لازال هشاش بشر معتاد على السياط في بلاط الخنوع، يمارس التكيف الحياتي بالبلعطة ومتاع أخر. من هنا تأتي صعوبة مقارنتنا بالجوار كالسودان وتونس من حيث حراك الناس في الشارع.
الحتمي أننا كليبيين ترعرعنا في نظام ريعي، وسط غياب نقابي مشهود، وسادنا اعتقد بأن فبراير ستكون نقلة ثراء أكثر بذخاً بذات الريعية، رغم الشعارات شديدة التعقيد كدولة القانون والمؤسسات التي رفعت حينها، ولربما أن مقولة “الخير جاي” كفيلة لتبسيط شرح تلك الفكرة للنقلة المزعومة.
لازلنا، رغم السقوط والانسداد والفساد وذات الوجوه لم ندرك الدرس على ما يبدو، فنحن لازلنا ننظر لليبيا من خلال نوافذ مدننا، ومنطلقاتنا المحصورة في متطلبات الذات ومحيطها، بينما لازال مجلس الأمن يخاطب ليبيا كجسد واحد رغم الفرقة والانقسام. هذا الوصف لحالنا قد يكون بسيطاً ولكنه واقعي؛ شعبا أولاً وسياسة ثانياً، ليعكس حالة الفراغ القابع في المسافة على الأرض بين ليبيا ككل ومدينة نيويورك، حيث أرباب الفصل السابع، الذين رغم معرفتهم بمحدودية طاقات ومهارات ساستنا في صنع حلول حقيقية، لازالوا ينتهجون معهم لغة دبلوماسية لينة، رغم نهج السابوتاج السياسي الممنهج من كل أطراف الصراع الليبي، كإقفال النفط، وحضور فاغنر المتهمة دولياً، والتمويل الأسود للمليشيات لأجل حماية كيانات سياسية طارئة تفرض ذاتها على الكل، وأخرى لازالت تناور لأجل الظفر باعتراف دولي. أرباب الفصل السابع على علم تام بحالة تهريب الأسلحة المستمرة لليبيا وقنواتها، كقصة سفينة Luccello وخط سيرها، والتقرير الأممي الصادر نهاية الشهر المنصرم الذي أقر بان حظر الاسلحة الدولي “لايزال غير فعّال” لا يعدو أن يكون نفخاً في رجل ميت، وفي بلاد لازال يحكمها طيف واحد لا غير يعمل بسطوة السلاح. المجتمع الدولي الرسمي لازال يخجل من تسمية الدول التي لازالت تهرب السلاح لليبيا بما يعبر عن تراخ أممي لرفع أياديهم عنها، وتحقيق اختراق حقيقي في أزمتها، إن كانوا فعلاً يبغون تسويات حقيقية تكفل ضمان السلام والأمن بالبلاد وبالمنطقة! كما إن المجتمع الأفريقي، الذي يصرح تكراراً بـ “مساندته لجهود المصالحة الوطنية”، لازال لم يتخذ موقفاً سياسياً حازماً تجاه من يعبث بالتراب الليبي، ويخترق أراضيه، ويهرب منه وإليه السلاح والبشر والمخدرات، ويسطو على مقدرات البلاد! يدرك العالم أن الدولة العميقة في ليبيا هي الفاعل الحقيقي، لأنها أجسام ومليشيات نتاج نسق “ثورة” كحالة فوضوية أساساً، ولن ترحل لأنها باتت أنظمة وهياكل وحركات ومليشيات ومافيات تتربص بأي عمل يقوض وجودها. فمصطلح الدولة العميقة ليس اكتشافاً سياسياً حديثاً تنامى مع الربيعيات، فهو متداول في الدول التي عاشت تحولاً ديمقراطياً كما في دول أمريكا الجنوبية، أو بدول شرق أوربا بعد الحرب الباردة، وعاشته تركيا، حيث برز المصطلح؛ في النصف الأخير من القرن الماضي بسطوة العسكر، وبدعم أمريكي تحصناً من الإسلاميين*.
سياسة الاستحلاب الأمريكية للمنطقة تحديداً كانت دائماً تكتكة ودبلوماسيات. المثير في حقبة ترامب أنها كانت فترة “دوة فقش”** للرأي العام ببلاده وببلادنا، لكنه “فقش” لا يؤثر في عربنا وأربابنا، كون الاستراتيجيات العربية، عموماً، في ” البزعقة “*** و “السفه السياسي” مستمرة بذات النهج والأسلوب، وحتماً بذات الوجوه، ولربما أسميناها بلباقة عربية “شفافيات” و “إدارة صراع” و”سلطات ناعمة وخشنة”. فالولايات المتحدة لن تحل الأزمة، لكنها ستوظف عناصرها بما يخدم مصالحها، وهذا هو منطق واقع السياسة بالمنطقة. أما على من لازال يجادل بالثورة وشرعيتها في ليبيا، كالإسلام السياسي أو الشباب المتحمس، فقد أضحى ضرورياً له أن يستدرك خطأ الفهم لـ “واقعه الثوري”، ومدى مطابقة ذلك للواقع المعاش الآن، فمن دواعي حراك فبراير، حسب اعتقادي، كان الضغط على الليبيين للانتفاض ضد القذافي الذي كان مرشحاً جدا لقيادة “الثورة المضادة” في تونس ومصر، بحسب مصطلحات خطاب الحراك بذات البلدين حينها، رغم التململ الليبي من الأوضاع العامة بالبلاد، وحالة اللا نظام المؤسسي.
لقد أضحت الآه رفيقة المسير في متاهة فبراير، واقترح إضافتها للنشيد الوطني باعتباره نابعاً من قريحة شاعرية ليست بليبية، فلربما دب شيء من خوالجنا في جسد القصيد، لنغمرها تباعاً بحال واقعنا المعلول جملةً. لقد ابتعدنا في كل شيء عن ضفاف الرجاء في البشر من حولنا بالأزمة اللامتناهية، وبات أربابنا بالمشهد الكئيب لا يصرون إلا على خلق القلاقل، واختطاف النهار لغياهب الغفلة والبطلان، ضمن مواجهة صفرية عنيفة، لازالت ملامحها المرهقة تتراوح بين السياسي المسدود، وحمل السلاح للتغيير بالقوة، ودون عمق ثقافي يسعى لمعالجة مفاهيم حاضرنا البائس لخلق وعى نابض.
هوامش:
* الثورة والدولة العميقة: فلسفة الصراع واستراتيجية المواجهة. عباس شريفة. رؤية للثقافة والإعلام.2018
* فقش … دارجة ليبية تعني الصراحة الشديدة.
* بزعقة… دارجة ليبية تعني التبذير.