محمد نجيب عبدالكافي
– دولة الدستور والقانون
انتقل إلى جوار ربه، قبل بضع أسابيع، رجل وهب قلبه وعقله وكلّ ما يملك لوطنه ليبيا، التي أجبر على فراقها فعاش غريبا مناضلا ضد الظلم، سعيا لخلاص وطنه وشعبه الذي أحبه وأراد سعادته، حتى فقد قواه وأخذ المرض والشيخوخة والوحدة منه، فسلّم الروح لبارئها غريبا بعيدا عن الارض التي أحبها فبكاه الذين عرفوه، وحزن لفقدانه القلم والصراحة، والحق الذي بحث عنه فلم يجده. إنه عميدالصحفيين الليبيين، المجاهد بالقلم والكلمة، المغفور له الصديق فاضل المسعودي، الذي لو كنت رساما أو نحاتا، وأردت رسم لوحة أو تمثال يجسم الوطنية والصدقَ فيها، والإخلاص في العمل من أجلها، بصبر وثبات وإصرار، ونزاهة، وطهارة قلب ويدين، وتعفف رغم العروض والمغريات، ورغم ما حُجزله وأخذ منه قهرا، لرسمت أو نحتت فاضل المسعودي. عندما بلغني نبأ وفاته في الحالة التي أتصوّرها، جعلت أستعرض حياته ومقالاته ومواقفه، فبادرتني في مقدمة نشاطاته جرأته التي جعلت ليبيا، أوّل أو من أوّل، بلدان العالم الثالث التي، لم يخرج استقلالها من رضاعته بعد، حتى برهنت، لمن يبحث عن برهان، أنها دولة القانون الذي يعلو ولا يعلى عليه، وله يخضع الجميع دون أي اعتبار غير احترام الدستور وسيادة واستقلال القضاء. كان ذلك سنة 1964 عندما انفتح، مرّة أخرى، باب حق إصدار الصحف فتقدّم عدد من المختصين طالبين الترخيص القانوني، من ضمنهم فاضل، وهو يريد إصدار جريدة أسماها “الميدان”. لكن، كم كانت الدهشة كبيرة، عندما منحت الرّخص لغيره ورفض طلبه فما كان منه، إيمانا باستقلال القضاء في بلده، إلا وأن رفع شكوى إلى المحكمة الاتحادية العليا ضد مصلحة المطبوعات، فما كان منها – بعد الدرس والتحقيقات – إلا وحكمت له فأجبرت المصلحة على التراجع ومنحه الترخيص فأصدر صحيفته التي، بإحدى افتتاحياته على صفحاتها كان أوّل من عارض سياسة الظلم من طرف العسكريين فقالها: لا.. عالية صريحة فتحمّل ثمارها المُرّة. هكذا أتاح فاضل لليبيا إعطاء الدليل الملموس على احترامها الدستور وما حواه من حق المواطنين واستقلال السلطات.
– الحكم ببطلان الأمر الملكي
لكن، للحقيقة والتاريخ، لم يكن هو الأول في هذا السبيل، بل سبقه أستاذه وزميله ومنقذه المحامي الأستاذ علي الديب، عضو ثمّ رئيس المجلس التشريعي لولاية طرابلس، فكان من أبرزالناشطين دفاعا عن حقوق الشعب والفرد، وترصّد الظلم أو الخروج عن الدستور أو هيمنة السلطة، فكان السيف المسلط ضد أيّ انحراف أو تزوير، إلى أن جاءت الضربة في الصميم عندما – سأوجز لطول وتشابك القضية – أراد الوالي (الصديق المنتصر) آنذاك، أن يتعدّى حدود سلطته، وأمام استعصاء الأمر أمامه التجأ إلى القصر الملكي فصدر، حسب مبتغاه، أمر ملكي بحلّ المجلس التشريعي. لم يكن الأستاذ الديب من العاجزين وهو رجل القانون، فها هو يرفع قضية أمام المحكمة العليا (1-1-1954) ضد شرعية وعدم دستوريّة الأمر الملكي، فأصدرت حكمها (5-4-54) ببطلان الأمر الملكي بما في ذلك من معاني سيادة الدستور والقانون، وخضوع الجميع له. أزمة دستورية وزوبعة سياسية بما فيهما من إيجابي وسلبي نشرت الصحف يومئذ ما ظهر منها وجهلنا ما بطن. هكذا كان الأستاذ الديب، وهو أول ثمّ آخر رئيس المجلس التشريعي لولاية طرابلس، وهكذا كان الزميل التلميذ فاضل المسعودي في ليبيا التي عرفت.أين هي؟
أين ليبيا التي عرفت. للحديث بقية إن طال العمر….
________________________
* الصورة المرفقة: الأستاذ علي الديب (يمينا)، الأستاذ فاضل المسعودي (شمالا)