دراسات

بني وليد عبر التاريخ (نظرة على الماضي)

د. محمود عمار المعلول

مدينة بني وليد (الصورة: عن الشبكة)
مدينة بني وليد (الصورة: عن الشبكة)

تقع مدينة بني وليد في الشمال الغربي من ليبيا، وتبعد عن طرابلس باتجاه الجنوب الشرقي، بحوالي (180) كم، وقد ذكر المؤرخون ومن بينهم ابن خلدون اسم (ورفل)، وهو الذي يعتقد إن اسم ورفلة قد جاء منه، وهو بطن من بطون بني اللهان من قبيلة هوارة التي استوطنت هذه المنطقة وما حولها  فأغلب المؤرخين يذكرون إن قبائل البربر لما هاجرت إلى هذه البلاد استوطنت لواته بنواحي برقة حتى أجدابية، واستوطنت مزاتة بودان، واستوطنت قبيلة هوارة بنواحي طرابلس تاورغاء وما جوارها أي المنطقة الوسطى (تاورغاء ـ بني وليد ـ مسراتة ـ زليتن ـ الخمس ـ مسلاتة ـ طرابلس) فهذه النواحي كانت كلها لقبيلة هوارة، فالمؤرخ اليعقوبي المتوفي سنة 284 هـ / 897 م في كتابه تاريخ اليعقوبي يذكر ما نصه عن الأمازيغ بعد مجيئهم لشمال إفريقيا : فأول من ملك منهم لواتة في أرض يقال لها أجدابية من جبال برقة، ثم يضيف بإن مزاتة ملكت ودان، وجاز قوم إلى تاورغاء وهم هوارة، ولما تغلبت العرب من بني سليم وبني هلال على منطقة غرب ليبيا بأكملها، وأصبحت ملكاً لهم هاجرت قبيلة هوارة، وبقيت المنطقة تسمى باسم ورفلة، وبقيت كذلك أسماء الأودية مثل وادي (سوف الجين ـ غبين ـ تماسلة)، لأن أسماء المناطق شيء متوارث عليه بين الناس، وقد رسخ في الذاكرة فمن الصعب تغييره، وأما قبائل ورفلة الموجودة اليوم فهي ليست ذات أصل واحد بل تنتمي لأصول وأزمنة مختلفة…

يذكر المؤرخ ابن خلدون (732 ـ 808 هـ / 1332 ـ 1406 م) إن ورفل ومسراتة بالسين يرجعان في نسبهما إلى بني اللهان بن ملد بن هوار، وكذلك أسماء غريان ـ مسلاتة ـ مجريس ـ ترهونة ـ وشتاتة ـ ماجر ترجع إلى قبيلة هوارة التي كانت تستوطن المنطقة، كما ذكر المؤرخ أبو عبيد البكري (ت 487 هـ / 1094 م) وجود قبيلة هوارة بمنطقة قرزة (تقع جنوب شرق طرابلس ب 130 كم)، وكذلك ذكر نفس الكلام السابق الجغرافي الإدريسي (ت 548 هـ / 1153 م)، وقرزة هي مستوطنة ذكرها المؤرخ بطليموس ضمن قائمة مدن منطقة سرت.

وتسمى المنطقة أيضاً باسم بني وليد نسبة لوليد الإبل حسب أشهر الروايات الشفوية المتواترة عند السكان المحليين حيث كانت إبل الحجاج تترك بوادي بني وليد المشهور بخضرته ووفرة أعشابه، وهناك حلق تتجمع فيه المياه بالوادي يسمى بحلق الإبل، والحلق والحلوق في اللغة هي الأماكن والأحواض والمضايق للوادي التي تتجمع فيها المياه، وعندما يرجع الحجاج يجدون إبلهم قد ولدت حواراً فسمى هذا الوادي بابن الوليد نسبة لوليد الإبل، وهناك من يرى أنها سميت بذلك نسبة لقبيلة من بني هلال كانت تستوطن المنطقة عرفت بقبيلة بن وليد، ولكن هذه الرواية لا توجد مصادر تدعمها .

وقد ذكر المؤرخ الحسن الوزان جبل بني وليد وقال عنه: ” إن هذا الجبل ……. تسكنه قبيلة شجاعة غنية تعيش حرة متحالفة مع سكان جبال أخرى في تخوم صحراء نوميديا “، والحسن الوزان ( ت 857 ه / 1550 م ) زار ليبيا حوالي سنة 1518 م، ويبدو أن هذا الوصف هو لسكان ورفلة ببني وليد وليس لجبال بني وليد بالجزائر، وتوجد ببني وليد أشهر وأمن الطرق للقوافل التجارية منذ القدم، وهي الطريق التي تبدأ من جنوب طرابلس وتمر بأرض ورفلة مارة بقصر بن ميمون ومتجهة إلى ودان والجنوب الليبي، ويذكر المؤرخ والجغرافي عبد المنعم الحميري إن المسافة بين قصر بن ميمون وودان مسيرة (6) أيام، وكانوا في الماضي يحسبون المسافات بالزمن فيقولون (مشية نهار أو مشية ثلاثة أيام)، واليوم بالحساب الحالي يساوي حوالي (40 كيلومتر)، ويمر هذا الطريق كذلك كما يذكر المؤرخ البكري على صنم يسمى كرزا، وهو منطقة كرزة ( قرزة ) …

وتلعب الطرق التجارية دوراً مهماً في ازدهار التجارة، وتعتبر منطقة ورفلة منطقة وسطى تتوسط منطقة غرب ليبيا، فلا غرابة أن يقصدها التجار والحجاج لتستريح إبلهم فيها، فمن أراد الجنوب عليه أن يمر بأرض بني وليد، ويذكر المؤرخ مارمول كربخال (1520 ـ 1600 م) في كتابه (إفريقيا) إن أهل بني وليد لديهم قوة عسكرية كبيرة، ويسيطرون على طرق القوافل التجارية الصحراوية، وكان أجدادنا في الماضي يقومون بجلب التمر من منطقة فزان المشهورة بوفرة تمورها وجودتها في رحلة طويلة وشاقة.

أما الرحالة الألماني غيرهارد رولفس (1831 ـ 1896 م) أشهر الرحالة الألمان إلى إفريقيا فقد زار بني وليد في سنة 1879 م، وحدد عدد القرى الموجودة بها بحوالي (50) قرية مما يعني أن هذه القرى كانت تمثل القبائل، وملخص كلامه عن بني وليد إنها خليط من السكان، وأنهم أهل حرب وغزو، وأنهم لا يعتدون كثيراً بالسلطة العثمانية الحاكمة آنذاك، بمعنى أنهم كانوا أشبه ما يكونون بالحكم الذاتي.

مدينة بني وليد (الصورة: عن الشبكة)

السكان والعادات والتقاليد:

كانت الحياة في ذلك الزمان بسيطة سهلة، والناس مترابطة مع بعضها، يسودهم الود والمحبة، وكان ذلك أمر طبيعي بعكس الحياة اليوم التي تعقدت بسبب التطورات التي حدثت، وكانت المنازل مشيدة من الصخر، وأما سقفها فمن جذوع وأغصان الأشجار المسماة في الماضي ب (الزنور)، ومقامة في أغلبها بأعالي الجبال المطلة على سفوح الوادي خوفاً من الغزو على ما يبدو، وكانت آبار المياه تحت تلك البيوت مقامة بجانب الوادي.

كان أجدادنا في الماضي بمختلف أنحاء ليبيا يتسمون بالبساطة والعفوية حيث كان تعلقهم وخوفهم من ما يسمونهم بالمرابطين كبيراً، وكانوا يحلفون بهم، وحتى أيام الحكم القرمانلي كان الأمراء والحكام عند توليهم الحكم يقسمون على كتاب (أبو جمرة)، وهو عبد الله بن سعد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي المتوفي بمصر سنة (699 هـ / 1296 م)، وكان يوسف باشا القرمانلي (1795 ـ 1832 م) نفسه يخاف من هؤلاء المرابطين فمثلاً كان لا يستطيع عن طريق جيشه وشرطته القبض على أي شخص يهرب ويحتمي (يعقل) بالشيخ أحمد أبو طبل الورفلي (1150 ـ 1252 هـ / 1738 ـ 1837 م) لأنه كان يعتبر الشيخ من الأولياء والمرابطين والوجهاء، وهؤلاء المرابطون لا يخرجون عن ثلاثة أنصاف :

1. أما أن يكونوا من الناس الصالحين والعلماء فعلاً.

2. وأما أن يكونوا من الأفاقين والدجالين.

3. وأما أن يكونوا من البسطاء والدراويش.

ويذكر الطبيب الأمريكي جوناثان كودري الذ تم أسره بسفينة فيلادلفيا الأمريكية في كتابه (يوميات الطبيب جوناثان كودري في قلعة طرابلس الغرب (1803 ـ 1805 م) إن يوسف القرمانلي ذهب إلى أحد المرابطية وجثا على ركبتيه أمامه وقام بتقبيل يده، وطلب منه البركة والمشورة، وكان هؤلاء المرابطين يصنعون ما يعرف بالحجابات للباشا وحاشيته وجنوده.

يتصف سكان بني وليد بالبداوة، والحياة في الصحراء، بسبب امتلاكهم لحيوانات الإبل والغنم والمعز، وبسبب حرثهم وزراعتهم للأرض، وأهم محصول عندهم كان الشعير، ومنه يصنعون أغلب أطعمتهم كالبازين مثلاً، ونتيجة لحياتهم في الصحراء تجد عندهم القصص عن الحرب والغزو والغارات والأخذ بالثأر أو ما شابه ذلك شأنهم شأن العرب البدو في أي عصر منذ العصر الجاهلي، حيث كانت الأمهات والجدات العجائز يحكن للأطفال الصغار عن تلك القصص، وهي قصص الفروسية والأخذ بالثأر والشهامة والشجاعة، وكذلك القصص عن الغولة بالصحراء.

وكانت حياتهم تعتمد على التمر والحليب واللبن وزيت الزيتون، وأكلة البازين الذي كان موجوداً عندهم منذ القدم، وهو أفضل وجبة يقدمونها إلى ضيوفهم، وذكره المؤرخون والرحالة أمثال ابن خلدون والحسن الوزان، وكانوا يقومون بجلب التمر عبر القوافل من منطقة فزان المشهورة بجودة تمورها، ولذلك كانت أجسامهم صحيحة قوية.    

تجدر الإشارة إلى أن اسم ليبيا كدولة لم يظهر إلا في العصور الحديثة، وكانت هذه البلاد في السابق نظراً لكبر مساحتها مقسمة بين الشرق والغرب فمنطقة الشرق تأثرت كثيراً بمصر حتى في عادات السكان، ومنطقة الغرب تأثرت بالمغرب الإسلامي تونس، وكانت طرابلس عبر تاريخها طويل، وفي كثير من الأحيان تتبع الدول التي حكمت تونس مثل الدولة الحفصية والفاطمية والأغالبة وغيرهم.

لقد مر عشرات ومئات الرحالة بهذه المنطقة متجهين نحو الشرق لأداء فريضة الحج وكتبوا عن أحوال السكان وعاداتهم وتقاليدهم، وكان قصر بن ميمون ببني وليد محطة مهمة لتوقف هؤلاء الرحالة وتزودهم بالمؤن، وكانت منطقة بن ميمون وما جاورها مثل منطقة (بزرة) عامرة في الماضي ومركز من مراكز بني وليد، حيث كان يقام بها سوق أسبوعي كبير، وتعتبر الرحلات مرآة صادقة تعكس الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية  للسكان، ولقد كانت بلادنا (ليبيا بصفة عامة) بلد الجود والكرم فأحد الرحالة الذين مروا بهذه البلاد يذكر كرم أهل منطقة زليتن ( ظلتين) فيقول عنهم بأنهم قدموا لهم أربعين (40) قصعة بازين، بالإضافة إلى الدلاع والتمور .

البازين والزميتة وخبزة الملة:

يعتبر البازين من الآكلات المشهورة عند أجدادنا في الماضي، ويصنع من دقيق الشعير، وذكره المؤرخون أمثال ابن خلدون والحسن الوزان، وفي البازين يقول العالم والفقيه الطرابلسي إبراهيم باكير (1865 ـ 1945 م):

خير الموائد عندنا البازين ……….. واللحم طازج حوله وسمين

فاقطع بكفك قطعة من جنبه ………… ثم ادلكنها دلكة فتلين

حتى إذا ما أشبعت مرقاً فكل …… بالخمس من يمناك فهي تعين

من بعدها كاسات شاي أخضر ……….. ورقيلة صوت لها ورنين

إن البازين والزميتة وخبزة الملة من الآكلات القديمة المعروفة في ليبيا، وعند العرب عموماً حتى في العصر الجاهلي، وقد كانت بليبيا في بداية العهد العثماني (1123 ـ 1251 هـ / 1711 ـ 1835 م) عملة تسمى بالقرميل، وعملة أخرى تسمى بالكلب سميت بذلك لأنها كانت على صورة كلب حيث ذكر الرحالة المغربي ابن ناصر الدرعي (ت 1181 هـ / 1768 م) الذي زار ليبيا سنة 1120 هـ / 1709 م ذلك فقال : ” اكترينا رجلاً ………… بخمسة كلاب “، وقال كذلك : ” بيع التمر بأربعة قفاف لكلب “، وواضح من النص السابق إن الكلب قيمته (4) قفاف جمع قفة .

أما الزميتة أو الزميطة بالطاء فهي أكلة شعبية ليبية بدوية، وهي من التراث الليبي الأصيل، ويبدو أنها لفظة أمازيغية، وهي موجودة بكل أنحاء المغرب العربي وإن اختلفت التسمية، ويتم إعدادها من الشعير المحمص المسمى بالسويقة، وكانت وسيلة أكل للحجاج المغاربة ولأي مسافر حيث كانوا يأخذونها معهم، باعتبارها معدة سلفاً فتخلط بالماء وتؤكل، وكانت الطريق طويلة، ويحتاج المسافر للأكل بين الحين والآخر، للتغلب على مشاق الطريق والتزود بالطاقة، فكانت الزميتة للمسافر مسافات طويلة خير معين على الطريق.

مدينة بني وليد (الصورة: عن الشبكة)
مدينة بني وليد (الصورة: عن الشبكة)

خبزة الملة:

هي أكلة شعبية ليبية عرفها العرب منذ العصر الجاهلي، وذكرها علماء ومؤرخون كثيرون، كابن منظور والفيروزآبادي وابن دريد والفراهيدي وغيرهم، وتصنع من دقيق الشعير وتعجن ثم توضع في النار، حتى تنضج، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى (الملال)، وهو رماد النار، وقال ابن السكيت (186 ـ 244 هـ / 802 ـ 858 م) في اصلاح المنطق أطعمنا خبزة ملة، والملة الرماد الحار، وقال ابن قتيبة الدينوري (213 ـ 276 هـ / 828 ـ 889 م) في المعاني الكبير خبزة الملة تضرب ليسقط عنها الرماد، وقال الحميري (ت 900 هـ / 1495 م) في الروض المعطار في خبر الأقطار لما أسرت زعيمة البربر الكاهنة ديهيا بنت نيفان ( 585 ـ 712 م ) خالد بن يزيد العبسي كتب إلى القائد حسان بن النعمان (ت 86 هـ / 705 م) في خبزة ملة بمعنى جعل الرسالة في خبزة ملة حتى لا يطلع عليها أحد .

الأمراض التي كانت موجودة في الماضي:

تعرض أجدادنا في الماضي للكثير من الأوبئة التي فتكت بهم، وقتلت الكثيرين منهم، ومن هذه الأمراض نجد أسماء منها لا نعرفها اليوم بالاسم مثل الجدري والنمنم وهو المعروف ب (الحصبة)، والحمى والفدة (الربو)، ومرض كان يسمى عندهم بالسخانة، وغيرها من أمراض، وهكذا فإن الوضع الصحي للسكان كان وضعاً متردياً للغاية بالإضافة إلى شدة الفقر، وعدم وجود ما يقتات عليه الإنسان في ذلك الزمان، فكثرت بذلك حالات السلب والنهب والغارة على القبائل من أجل الحصول على لقمة العيش.

ويبدو إن قلة عدد سكان ليبيا اليوم كان سببه انتشار تلك الأمراض والآفات والكوارث التي حلت بهم، بالإضافة إلى كثرة عدد الشهداء ضد الغزو الإيطالي حوالي (700.000) شهيد في سبيل الدين والوطن

ومن أهم العلاجات التي كانت موجودة عندهم آنذاك الكي بالنار، والخرت وهو إدخال خيط بالإبرة في الجسم ربما لتحفيز جهاز المناعة على المقاومة، والحجامة، والعلاج بالنباتات والأعشاب، والعلاج بالرقية وهي ما يعرف بالعزيمة فكانوا يذهبون إلى شيخ (يعزم) في ورقة أو ماء..

وقد تعرضت ليبيا بصفة عامة وبني وليد بصفة خاصة لموجات من الأوبئة والأمراض والمجاعات فالرحالة الورثيلاني (1125 ـ 1193 هـ / 1713 ـ 1779 م) عندما زار ليبيا سنة 1179 هـ أشار إلى مجاعة عظيمة حتى إنه حكى إن أشخاصاً لم يتناولوا الطعام مدة أربعة أشهر وإنما يأكلون الحشيش والنبق، وقد أفناهم الجوع، ويصف منطقة طرابلس وتاجوراء إن الطعام لا يشترى من كثرة غلائه فترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن القحط عمهم وغشيهم.

وفي سنة 1767 م في عهد الأسرة القرمانلية تفشى وباء الكوليرا بالبلاد، ومات من سكان طرابلس وحدها أكثر من 500 شخص، وفي سنة 1785 م تفشى وباء الطاعون، وانتشر في البلاد كلها، وقد مات بسبب هذا الوباء في مدينة طرابلس ربع السكان حوالي 3000 شخص، كما تذكر أخت القنصل الإنجليزي في ليبيا توللي ريتشارد في كتابها عشر سنوات في بلاط طرابلس الغرب، وكان عدد سكان طرابلس في تلك السنة حوالي (14.000) نسمة فقط..

وبالإضافة إلى تعرض أجدادنا في بني وليد للأمراض والأوبئة تعرضوا أيضاً لغزو قوات الباشا منذ بداية حكم أحمد القرمانلي ( 1711 ـ 1745 م ) الذي أعدم الكثير من مشايخ ورفلة بسبب تمردهم ورفضهم لدفع الميري (الضرائب)، وكانت بني وليد هي مركز لتجمع الثائرين من مختلف أنحاء ليبيا بسبب وعورة وصعوبة مسالكها، وبأرضها دارت الكثير من معارك الكر والفر بين الجانبين، وكان الولاة الأتراك يبعثون في عمالهم لجمع الضرائب من السكان المحليين، وكان كل من يرفض يأتون به محمولاً في شبكة على ظهر جمل أو مقيد اليدين في ذيل حصان ليسجن أو يعدم في السراي الحمراء بطرابلس .

وقد كتب أحد مشايخ ورفلة يصف شدة المعارك التي دارت في شعبة التربة بين الاتراك ومن تحالف معهم من القبائل الأخرى وبين قبائل ورفلة حيث قال: “حتى جرت الكلاب في بطون التريس” بمعنى كثرة جثث القتلى حتى عجز الناس عن دفنهم (وجرت ولدت) …

حساب: التاريخ ـ المسافات ـ الكيل:

عرف أجدادنا في الماضي أدوات لم نعرفها اليوم للقياس والكيل والحساب كالحارة والقامة والشبر والمرطة والغرارة والحمل، والمسافات حيث كانوا يقولون لحساب الزمن مسيرة يوم وليلة، أو مشية نهار، والحمل هو وحدة لقياس الشعير والطعام، فيقولون فلان تحصل على عشرة حمول شعير في زرع السنة.

وأما الغرارة فهي كيس معروف للحمل وتخزين الشعير في الغالب، وهي تتكون من عشر مرطات، وأما المرطة فتتكون من حوالي ( 20 ) كيلو، والقامة تساوي حوالي 1.70 متر، وأما التاريخ فكانوا يؤرخون بالأحداث المهمة فيقولون ولد فلان عام الزلزلة، أو عام الحلبة، أو عام الأسرى، أو عام الزينقو، أو عام الصابة، وعام الصابة عام مشهور بليبيا كلها وهو يوافق سنة 1952 م، بوادي سوف الجين حيث أنبتت الحبة في تلك السنة جذر شعير فيه أكثر من مائة سنبلة، وغيرها من تواريخ كانت مهمة في حياتهم يؤرخون بها كعادة العرب منذ العصر الجاهلي .

أحب أجدادنا في الماضي الإبل والخيل والغنم وتعلقوا بها، وتغنوا بها في أحاديثهم وأشعارهم، وأغانيهم الخاصة بالنساء مثل أغاني الرحا، لأنها كانت مصدر مهم من المصادر التي يعتمدون عليها في حياتهم غذاء وكساءً وقضاءً للحوائج، وكانت المرأة عندما تغني على الرحا تعتز بأخيها أو أبيها أو قبيلتها فتذكر أمجادها وانتصاراتها، وفروسية أبناء قبيلتها، وعدم خضوعهم للظلم والضيم.

مدينة بني وليد (الصورة: عن الشبكة)
مدينة بني وليد (الصورة: عن الشبكة)

الاعتقاد في المرابطين:

ذكرنا سابقاً إن الناس كانت تعتقد في المرابطين واعتبارهم من الأولياء الصالحين ليس على مستوى الناس البسطاء فحسب بل على مستوى السلطة السياسية الحاكمة، وقد أطلقت كلمة المرابط في العصور الإسلامية اللاحقة على من يوجد بالرباطات للجهاد في سبيل الله فهي تسمية دينية تدل على معاني سامية شريفة، أما في اصطلاح الناس بليبيا ومن بينها منطقة بني وليد فإن التسمية أطلقت على الولي خاصة، وهناك من يطلقها على الدرويش …

كانت الناس في ذلك الزمان تعتقد في المرابطين بمعنى أن لهم تأثير، ويمكن تصنيف المرابطين إما كونهم ناس صالحين بالفعل احترمتهم الناس، وكانت لهم كلمة وسلطة أدبية كالمصالحة بين الناس، والكف عن الحرب والقتال، وحتى في ولاية طرابلس يصف أحد القناصل الأوروبيين حال أولئك الناس بأن المرابط الذي يركب على جحش أبيض (حمار أشهب) كانت له سلطة وتأثير على الناس، وأنهم يلتفون ويتجمعون حوله، أكثر من الوالي أو الحاكم نفسه الذي لا يلتفت إليه أحد.

أو أن أولئك المرابطين هم دراويش وبسطاء اعتقدت فيهم الناس بسبب طيبتهم وبساطتهم وسذاجتهم فاحترمتهم، ومنحتهم ما يريدون مثل أخذهم للحيوانات أو الزرع أو الأموال، وهناك رأي أخر وهو أن هؤلاء المرابطين ربما يكون بعضهم من الأفاقين أو الدجالين أو المشعوذين استغلوا طيبة الناس وبساطتهم وجهلهم فأوهموهم بأن لهم القدرة على فعل كثير من الأشياء.

كانت الكثير من القبائل في الزمن الماضي تعتقد في المرابطين، وأن هؤلاء المرابطين لهم القدرة على شفاء المرض أو إنجاب الأولاد أو النفع أو الضر، وهذه الاعتقادات وصلت إلى درجة الشرك بالله سبحانه وتعالى، فاعتقدت الناس أو بعضهم إن بعض المرابطين يجبن في الماء بمعنى يجمد، وإن بعضهم يفرغ بالمعكاف فيصيب أي شخص يريده، وأن بعضهم حج في ليلته وروح إلى عويلته، وكل تلك الترهات لا يصدقها عقل إذ لو كان المرابط من الصالحين كيف له أن يخالف ركن من أركان الحج؟ فكيف له أن يحج في ليلة، ويطير في السماء، ويرجع إلى أهله، والحج له أركان وشروط لا يتم إلا بها مثل الطواف حول الكعبة، والوقوف بعرفة الذي هو ركن من أهم أركان الحج، وهذه الشروط والأركان تستلزم البقاء لأدائها على الوجه الأكمل …

مما يدل على أن الاستعمار الإيطالي كان يدرس العقلية الليبية، وكيف كان يفكر الليبيون في ذلك الزمان أن حاكم إيطاليا موسوليني (1922 ـ 1943 م) عندما زار ليبيا ذهب إلى ضريح أحد الأولياء ووضع عنده بعض الأموال مثلما كان يفعل بعض الناس، وحتى الدراسة التي قام بها هنريكو دي أغسطيني عن سكان ليبيا كان الغرض منها سياسي مخابراتي لغرض معرفة تركيبة القبائل الليبية، وتأثيرها في حركة الجهاد التي أرهقت وأتعبت الإيطاليين خاصة بعد معركة القرضابية الشهيرة سنة 1915 م.

لقد انتشرت الطرق الصوفية عند أجدادنا كالعيساوية والأسمرية والعروسية وغيرها من طرق صوفية بالغرب الليبي، ويذكر المؤرخ أنتوني جوزيف كاكيا (1896 ـ 1946 م) في كتابه (ليبيا في العهد العثماني الثاني 1835 ـ 1911 م) إن حضرة العيساوية من أشهر الطرق للحضرة في ليبيا، وهي المهيمنة على البلاد الطرابلسية، ويشتهر أتباعها بابتلاع الزجاج والأفاعي والعقارب أمام الناس، ويذكر الطبيب الجنوي باولو ديلا شيلا الذي رافق حملة يوسف باشا القرمانلي سنة 1817 م ضد عرب الجوازي في كتابه ( أخبار الحملة العسكرية التي خرجت من طرابلس إلى برقة سنة 1817 م عن الحضرة ما نصه : المرابطية … هم الذين يقومون بهز رؤوسهم وأيديهم لساعات طويلة حتى إن بعضهم يسقط ليخر مغشياً عليه، ويفقد بعضهم الإحساس .

اللغة والتأثيرات الأخرى:

يلاحظ الباحث في تاريخ المنطقة أن أسماء الأودية والمناطق بورفلة والمناطق المجاورة لها هي أسماء أمازيغية بربرية مثل (سوف الجين ـ فدراج ـ تماسلة ـ مرزين ـ طوطنت ـ أشميخ ـ تينيناي ـ وشتاتة ـ بالعيزار ـ ترغلات ـ آدس ـ زرزر) وغيرها، وقد بقيت أسماء الأودية والمناطق حتى بعد مجيء الفاتحين المسلمين فتلك الأسماء يصعب تغييرها لأنها بقيت في الذاكرة الشعبية للناس فلو اسميت أحد الأودية باسم جديد كثير من الناس لا يعرفون ذلك..

كذلك لازالت في اللهجة المحلية عند أبناء ورفلة وغيرهم من المناطق المجاورة ألفاظ أمازيغية ليست عربية لازالت متداولة إلى اليوم عند أهالي بني وليد مثل كلمة ( يمقرس ) بمعنى الشخص الذي يربي في الأغنام، والجمع اسم الفاعل هو (مقراسة) بمعنى المربين للأغنام، كذلك توجد العديد من الكلمات الأخرى مثل ( واغمة ) بمعنى غنيمة أو حظ ونصيب، وكذلك كلمة (صيرة) بمعنى حائط، وفكرونة التي هي السلحفاة، وكلمات مثل ( يقتنر ـ ينت ـ يحوش ـ أمفرشك ـ أقرج ـ يخترف ـ قزون ـ ذايح ـ أيكوش ـ يشلبق ـ رزيل ـ أشياخة )، وكلمة اتلاد لابن الغنم والمعز، وغيرها من كلمات، وهناك كلمة تالة بمعنى جهة فمثلاُ عندما تسأل شخص إلى أين أنت ذاهب فيقول لك أنا ذاهب تالة السوق وهي كلمة أمازيغية .

والحقيقة إن اللغات تأخذ من بعضها، وإذا سلمنا بالرأي القائل إن العربية هي أصل اللغات فتكون كل هذه الكلمات من أصل عربي.

كذلك توجد تأثيرات أندلسية بمنطقة ورفلة ـ بني وليد كانت بسبب هجرة قبائل من الأندلس إلى غرب ليبيا مثل أبيات الشعر، وكذلك بعض الكلمات الأخرى مثل كلمة ( مالقي ) نسبة إلى مدينة مالقة الأندلسية، وقد ورد في كتاب تحفة المغترب ببلاد المغرب لمن له من الإخوان في كرامات الشيخ أبي مروان إن الشيخ أبا مروان ( ت 667 هـ / 1269 م ) كان مريضاً، وكان يشرب الماء في أبريق مالقي أخضر، وكذلك كلمة الصردوك بمعنى الديك، وكلمة الجنان والحوازة والكسكسي لأن أهل الأندلس امتلكوا هذه الأشياء أيام الحضارة الإسلامية بالأندلس، وغيرها من كلمات وافدة وجدت عند أهل الأندلس .

عندما اشتدت هجمات النصارى على المسلمين بالأندلس هاجرت الكثير من القبائل والعائلات والأسر الأندلسية إلى منطقة شمال أفريقيا، ونجد الكثير من الكلمات الأندلسية منتشرة بكثرة في المنطقة الغربية (غرب ليبيا) ومن بينها منطقة بني وليد، ومن هذه الكلمات والألفاظ (الزليزـ الكوشة ـ الدلاع ـ المالقي ـ الطنجرة ـ الجنان ـ السفنز ـ الحوازة ـ الزريبة ـ السميد ـ الشكارة ـ العلفة)، وغيرها من كلمات لازالت متداولة عند السكان المحليين في بني وليد إلى اليوم..

وفي كل عصر وبمرور الزمن تظهر كلمات وتختفي كلمات فمثلاً أجدادنا في الماضي كانوا يعرفون (المخلاة ـ المرحول ـ العوين ـ الخرج ـ الصرة ـ المطرة ـ العكة ـ الشكوة ـ التكامية للجرد ـ الغرارة ـ الزايلة ـ المعطن ـ القرة وهي شدة البرد) وغيرها من كلمات، ولكن بمرور الزمن بدأت تختفي لتحل محلها كلمات وألفاظ أخرى حيث نجد ألفاظ ذلك الزمن مثل دز له جواب، طاحوا عشرة تريس، وضربتهم كورة، وهي بمعنى أرسل له رسالة ومات عشرة رجال، وضربتهم قنبلة وغيرها من ألفاظ ظهرت بحكم تطور الزمن والبيئة والناس..

والله يصلح أحوالنا …

مقالات ذات علاقة

جماليات السرد وبناء حكاية قصة من يسمع قصة المطرة الأولى لعلاء الدين كويدير

عبدالحكيم المالكي

دراسة نقدية لأسلوب وخصائص شعر الشاعرة أسماء صقر القاسمي

عزة رجب

الصحافة كفضاء عمومي للمبدعين

ميسون صالح

اترك تعليق