مقدمة
يقول كانط: “تجرأ على استعمال عقلك دون وصاية الآخرين , تجرأ على استعماله داخل المجتمع” . حسب غرامشي الصحافيون مثقفون يقع عليهم عبء تنقية الثقافة الشعبية مما هو خرافي واسطوري وربط ما هو عقلاني ونهضوي وموضوعي فيها بالثقافات العليا , خاصة بثقافة المطبوعة الكتابية العقلانية و التمحيصية والتوثيقية والاستقصائية ضد ثقافة الاعلام الخطابي والدعائي والمبتذل .
في هذه الورقة سنحاول أن نجيب عن السؤال التالي:” هل هناك مكان للمبدعين (مثقفين ,صحافيين) لممارسة ابداعهم وبالتالي تأثيرهم المجتمعي من خلال الاستحواذ على ما يعرف بالفضاء العام؟ هذا السؤال هو نفسه السؤال عن راهنية التفكير في هذا الفضاء. فلم يتوقف النقاش حول العلاقة بين الفضاء العمومي والفضاء السياسي والإعلامي منذ صدور أطروحة يورغن ها برماس
بعنوان (الفضاء العمومي اركولوجية الإعلان كبعد تأسيسي للمجتمع البرجوازي) في عام 1962.
ويعود هذا المفهوم الى الحقبة الاغريقية والى النقاشات التي كانت يخوضها الفلاسفة في ساحات أثينا ولعل حوارات سقراط خير مثال عليها.
الفضاء العمومي
هو ذلك الفضاء الذي تكَون تدريجيا بين المجتمع المدني والدولة ، المكان الذي يجتمع فيه المواطنون لتكوين آرائهم ،هذه المنطقة الوسط هي ساحة صراع على مر التاريخ لمحاولة السيطرة عليها والتأثير فيها ، وتتذبذب درجات السيطرة
هبوطاً وصعوداً بين المجتمع المدني والدولة تبعا للظروف الاقتصادية والسياسية وغالباً ما تعكس شكل نظام الحكم .
الفضاء العمومي كفضاء رمزي يضم عددا كبيراً من المواضيع والفاعليين وهو قابل للتوسع أو يمكن القول أنه يتوسع بتوسع مصادر المعلومات .
ويضم كل ما هو خارج نطاق الدولة بمؤسساتها كالصالونات والصحافة ,المقاهي السينما ,الميديا ,العلاقات العامة , الجمهور , الشوارع .. الخ.
ونستطيع ان نقول انه هو المكان الذي تدور فيه المساجلات وتتشكل فيه الآراء والمواقف حول القضايا التي تجسد اهتمامات (العامة) وهمومهم بمعنى انه حقل تجارب المجتمع. فمن اجل ديمقراطية حقيقية حسب هبرماس يجب توسيع الفضاء العمومي الذي يصلح للمناقشة حيث يتم طرح القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا يهيمن منطق السوق أو منطق الدولة وحيث يساهم الرأي العام في بعث الاهتمام بالسياسة ولا يتحول الفضاء الى فراغ.
الصحافة بشكل عام هي قناة من قنوات الفضاء العمومي و إذا بمحاولة تجريدها تتحول الي مجتمع مصغر يمكننا ان ننظر اليها من جانبين ، جانب مدى تأثيرها في الفضاء العمومي وجانب آخر يمكننا أن نتكلم فيه عنها هي بذاتها كفضاء عام للمبدعين (مثقفين وصحافيين) .
الصحافة جزء من المنظومة الثقافية للمجتمع , وهي ايضاً لسان حال السياسة كما يراها البعض , وجزء من الأجهزة الايدلوجية للهيمنة , قسمها غرامشي إلى صحافة رأي وصحافة اخبار بوجه عام ، أما صحافة الرأي فتعمل على إنتاج رأي متوافق مع توجهات الفئات المسيطرة …
هذا إذا لم يكن للمثقف أي مكان فيها ، لكن حضوره على صفحاتها يجعله المسؤول عن توجيه مسارها ليأخذ مكانه في لعب الدور التنويري الفعال .
الذي سنركز عليه في هذه الورقة هو ما يعرف بالصحاف الثقافية (كفضاء للمبدعين ) .. في وقت من الأوقات أو لنقل في البدايات لم تكن هناك مهنة صحافة بمعنى شخص يمتهنها ويطلق عليه صحافي، بل كان كل من يكتب هم كتاب وأدباء يستخدمونها كوسيلة للتعبير عن آرائهم وفكرهم من اجل تطوير مجتمعهم او لمجرد انتقاده.
تشكلت المهنة تدريجيا وتنوعت .. وفي خضم المأزق الصحافي الراهن والذي هو انعكاس للأزمة السياسية في المنطقة، أصبحت الصحافة الثقافية (مجلات وجرائد وملاحق ثقافية) هي الأكثر تضرراً و هي الحلقة الأضعف في الصراع الإعلامي و بذلك سهل تحجيمها وتمزيق مكانتها وشبه موتها في الوقت الحالي.
يقع الضرر الناجم عن ضعف الصحافة الثقافية ليس في ليبيا فقط ، بل في كل أرجاء المنطقة على الكتاب و المبدعين الليبيين.. و على الرغم من فترات ازدهار قصيرة مرت بها الصحافة الثقافية عندنا إلا أن الوضع اليوم سيء للغاية.
مع التأكيد (والايمان ) أنه لطالما كانت هناك دائما وابدا أقلام تتحرق شوقاً للكتابة والتعبير عن مكنونات النفس وما يجول في العقول من أحلام وأفكار في غياب الصحافة التي هي فضاء عام هذه الأحلام و الأفكار.
لا شك أن التجربة الصحافية الليبية تبدو متواضعة إذا ما قارناها بباقي التجارب العربية و العالمية و مع ذلك سأقف عند ثلاث مستويات من احتضان الصحافة (وكونها فضاء) للمبدعين الليبيين:
أولا: فترة ما قبل الثورة (مجلة الفصول الأربعة كنموذج ) .
ثانيا : فترة الثورة وانطلاق الحريات.
ثالثا : الفترة الحالية .
الفترة الأولى:
فترة انشاء اتحاد الادباء والكتاب عام (1976) والتي شهدت حراكا ثقافيا لابأس به , من ملامحه أن اصدر الاتحاد مجلة الفصول الأربعة مجلة فصلية تصدر كل 3 اشهر تعنى بالشؤون الثقافية , تضم نخبة من المثقفين والكتاب، كونت المجلة لهم فضاء جيدا جدا طرح فيه العديد من القضايا الثقافية والأدبية , هذا البراح شكل حالة طمأنينة نوعا ما للمبدع الليبي فقد أصبح لديه فضاء عام للنشر مقبول في ذلك الوقت ، كما أنها فضاء للأقلام الجديدة الجيدة فالصحافة كما يقال هي المدرسة الأولى للكتابة .
لا يغيب عنا ولا أحد ينكر ايضاً أن هامش الحرية في تلك الفترة كان صغيرا جدا ً، خصوصاً فيما يتعلق بالتطرق الي رمز السلطة ونظام الحكم , وهذا يضعف تأثير الصحافة كونها وسيلة من وسائل الضغط أو كسلطة رابعة كما هو متعارف عليه، ولربما هذا هو سبب انحسارها تدريجياً ليس من ناحية إنتاج الكتاب ، بل من ناحية القراء ،فاعتبارها صحافة منافقة سياسيا ضيع على الكثير من الأعمال الإبداعية فيها الفرصة على أن تصل إلى المتلقي.
هذه الورقة ليست بصدد تحليل أسباب هذا الانحسار لما يحتاجه التحليل من دراسة متأنية وعلمية ، انما ما نود قوله هو أن هذه الفترة كانت تحيط (المبدعين ) بفضاء عام يلجؤون اليه ومن ثم استمرارية تواجد الصحافة كجزء من الفضاء العام الكلي للمواطنين وإن كان تأثيرها ضعيف .
بالإضافة لمجلة الفصول الأربعة كانت هناك مجلة الثقافة العربية ، مجلة لا، مجلة عراجين ، ايضاً ملحق الجماهيرية الذي امتاز بنوع من ادماج فئة أخرى هم كتاب النظام ان جاز التعبير والذين كان لهم فضاءهم الخاص متمثل في الصحف الصادرة عن مكتب الاتصال باللجان الثورية، كصحيفة الزحف الأخضر على سبيل المثال .وهذا شيء حسن من منظور مفهوم الفضاء العمومي الذي يضم كل الفئات .
يعاب على هذه الفترة وهذه وجهة نظر صاحبة الورقة وربما كل أفراد جيلها ايضاً , ان الإنتاج الثقافي والصحفي كان بعيدا عن اهتمام الشباب ،هؤلاء الذين فقدو الثقة في كل شيء عام من صحافة واعلام ومؤتمرات واي شيء كان يوحي لهم باسم دولتهم التي لا يملكون وسيلة للتمرد على قمعها لحرياتهم الا من خلال التغاضي عن كل ما يمثلها او يصدر عنها .
الفترة الثانية :
هي فترة ثورة 2011 فترة انطلاق الحريات واستنشاق عبق الممكن والحق الطبيعي في التعبير عن الرأي , انطلق الشباب لإصدار العديد من الصحف والمجلات بمجهودات شخصية واحياناً بتمويل من منظمات المجتمع المدني ( التي تمتاز بالحداثة ايضاً وقلة الخبرة ) وبعض رجال الاعمال .. وصل عدد الإصدارات حوالي ال 300 اصدار ليبي منها 180 تقريبا ً في بنغازي.
تنوعت في اهتمامها ومواضيعا مع الانحياز للأوضاع المحلية والصراع القائم ومعلومات عن الجرحى والمفقودين والشهداء …. الخ
وجد الشباب المبدع ذاك الذي قد بنى سداً قبل الثورة بينه وبين الصحافة في هذا العدد الهائل من المطبوعات فضاء عام واسع جداً لا رقيب عليه الا ما قد يمليه عليه ضميره ، تفجرت من خلاله العديد من المواهب والطاقات يدفعها تعطشها للتعبير والكتابة والفن والابداع ومارست الحرية سطوتها التاريخية في تحريك هذه الطاقات بدون معايير و لا قوانين و مهنية.
ومن أهم وأنجح هذه الصحف التي كانت من الممكن أن تكون نواة لصحيفة حقيقية مؤسسة على المهنية والحرية “صحيفة الميادين” .
ومع مرور الوقت تناقص هذا الكم العجيب من الإصدارات تدريجياً إلي ان وصل الي الصفر تقريباً , لأسباب عديدة منها مصادر التمويل _ انعدام المهنية والخبرة الصحافية _ عدم وجود رؤية مستقبلية – التراجع الشديد في الحريات _ الفوضى والعشوائية .. والاهم عدم وعي الجهات المسؤولة بمدى أهمية الصحافة المكتوبة والتي تشكل فضاء عاما للمبدعين وكونها جزء من الفضاء العام الكلي الذي من المفترض أنه يشكل الوعي والرأي العام.
الفترة الحالية :
الى ان وصلنا الي وضعنا الحالي وهو اختفاء كامل للصحافة الليبية (السلطة المعطلة) , باستثناء بعض الصحف الإخبارية والتي لا يقرأها احد ولا يكتب فيها نخبة المثقفين والمبدعين ايضاً . وللرغبة الطبيعية في توفر فضاء للحوار , ظهر فضاء عمومي موازي تمثل في شبكات التواصل الاجتماعي والمدونات والنشرات الالكترونية (بشكل محدود).
ولا أتحدث هنا عن الصحف التي تحولت الي صحف الكترونيه والتي أثبتت فشلها في القدرة على استقطاب القراء في مواجهة الاقبال على مواقع التواصل الاجتماعي .
هذا الفضاء الافتراضي تحول فيه القارئ الى كاتب (وصحفي) بدوره , أصبح هو من ينشر الخبر ويلتقط الصورة ويستقصي الحقائق ويحلل النتائج ويتنبأ بالمستقبل .. ويمارس الكتابة الإبداعية نثراً وشعراً , كل هذا يبدو ظاهريا صحافة بديلة شاملة ومنوعة لكنها في الحقيقة صحافة مشوهة تفتقد لاهم ركيزة وهي المهنية والتحري ونقل الاخبار الصادقة والرسمية وتحمل المسؤولية الإعلامية .
ولم يعد الكتاب (النخب الثقافية) يتواجدون بشكل فعال على الشبكة وان نشر مقال هنا او هناك لا يصل إلا الي النخبة كون طبيعة متصفح هذه المواقع كطالب FastFood)) لا يبحث الا عما قل طوله وسرع فهمه ويبتعد عن المقالات الطويلة التي مكانها الأصيل هو الصحافة الورقية.
وتحول الفضاء العام الذي يحوي المبدعين من ادباء وكتاب الا وهو الصحافة الي فضاء عام مفتوح لا محدود يحمل مفارقه غريبه وهي ان المؤثر (المبدع) والمؤثر عليه (القارئ) في نفس الخانة ، والادهى من ذلك انه اصبح يتكون من جميع القراء (المواطنين ) واصبح الرأي العام يشكل نفسه بنفسه .
وهذا تحديدا ً موقع الخطر الذي حاولت في ورقتي لفت النظر اليه بتواضع شديد , لم تعد الصحافة كمكون رئيسي للفضاء العمومي متواجدة فيه , الفضاء العمومي ذاك الذي يشكل الرأي العام لم يعد مُسيطر عليه و النتيجة هي هذا المشهد الذي نشاهده الان من فوضي والتباس كل الأشياء ببعضها ،إن المواطن العادي مهما كانت نسبة وعيه لا يمكن أن يشكل الفضاء العام في غياب الصحافة الحرة و النزيهة و المهنية إلا من خلال المعلومة المغلوطة و الشائعات و الرأي الشخصي الغير موضوعي ،وهذا ما تنتجه شبكة التواصل في أيامنا هذه ، مجرد رأي عام هزيل الأساس فيه الأحقاد و الطائفية و العنصرية و انعدام الثقافة و قلة الموثوقية.
المبدع الليبي الان وبكل وضوح ليس له فضاء عمومي (خاص به) لينطلق لممارسة حقه في أن يكون مثقف حقيقي (مثقف عضوي) ذو تأثير فعال في مجتمعه ، و في ظل هذه الفوضى العارمة و في الوقت الذي تحول فيه الجميع إلى كتاب و صحفيين ، اختار هو الصمت و المراقبة و احيانا الابتعاد عن كل الفضاء العام بما في ذلك شبكة التواصل الاجتماعية.
__________________________________________
ورقة مقدمة ضمن ندوة الصحافة الثقافية في ليبيا – تونس 24 يناير 2016 – مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة.