محمد تركي الربيعو | سوريا
مع بروز الحركات الوطنية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ودنو نهاية النظام الاستعماري، اشتدت المعارك المتصلة بالتأريخ حول الصراع على الماضي الاستعماري. وعلى الرغم من النوايا الطيبة في إعادة تصحيح الصورة المشوهة للمجتمعات المستعمرة، فإن الخطاب القومي، وفي سياق دفاعه عن استراتيجيته السياسية للكفاح الوطني، سرعان ما وقع في شرك المشروع التصنيفي الذي تبناه المستشرق، من خلال اللجوء إلى التصانيف نفسها التي دمغ بموجبها الشرقي بخصيصة جواهرنية تدل (في كل مظهر من مظاهرها) على اختلافه عن الكائن الأوروبي.
وقد ساهمت هذه النزعات التحديثية (وفقا للمرحوم إدوار سعيد) في إعادة تعويم للفصل الإمبراطوري بين الأصلاني والغربي، ذلك أن اللجوء والكلام بلغة الأصالة الثقافية الذي تقوم به النخب المحلية لم يكفل بأي شكل من الأشكال كون المستعمَر خارج تركيبة الإمبريالية، بل على العكس من ذلك (كما يقول سعيد): «يمكن للمستعمر حتى أن يتصرف بطرق تتعارض مباشرة مع المصالح العليا لشعبه. ويظل الفصل قائما. يبدو لي أن هذه الحال كانت دائما كذلك في كل علاقة استعمارية، لأن المبدأ الأول للإمبريالية هو وجود تمييز هرمي قاطع ومطلق بين الحاكم والمحكوم». أما من جانب آخر، فيرى حميد دباشي من خلال قراءته لتاريخ الذات المسلمة الحديثة، أن هذه الذات قد تشكلت في سياق الخضوع للحداثة الاستعمارية الأوروبية، وبدون النضال لتفكيك تلك الذات، لن نكون أحرارا أبدا. (نهاية حقبة ما بعد الاستعمار).
ضمن هذا السياق، يمكن القول إن كتاب «ما بعد الاستعمار والقومية في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية» الذي أشرف على تحريره الباحث الليبي المعروف علي عبد اللطيف احميدة، هو من فئة الدراسات الجديدة والقليلة في عالمنا العربي، الذي يأتي ليجيب على الإشكاليتين اللتين طرحهما كل من سعيد ودباشي والمتمثلتين أولا في الكشف عن النسق الكولونيالي الثاوي خلف الخطاب القومي، وثانيا في إعادة التحرر من هذا النسق عبر إعادة الكتابة من خلال الاستماع إلى الفئات المهمشة، والأصوات التي يتردد صداها في السينما، والأغاني، والأدب الشفوي، والتي غالبا ما أهملت لصالح خطاب قومي نخبوي.
الذاكرة الشفهية للجنود المغاربة
يرى المؤرخ المغربي إدريس مغراوي، أنه عقب بروز الحركات القومية المطالبة بالاستقلال في المغرب العربي، تبلور نضال جديد يهدف إلى إعادة تصوير الماضي والطعن في النماذج الاستعمارية المسيطرة على معظم المؤلفات التي تناولت تاريخ المغرب العربي ومجتمعاته، حيث كان معظم ما انبثق عن الأدب الاستعماري مجموعة من المفاهيم، التي صيغت بلغة عنصرية سعت إلى إظهار «قابلية» مجتمعات شمال أفريقيا للاستعمار. وردا على هذا النمط، كان «استئصال الإرث الاستعماري» من التاريخ المغربي واحدا من أهداف تاريخ تنقيحي سعى إلى إظهار التأثيرات الفظيعة للاختراق الاستعماري الفرنسي في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات. ونتيجة لذلك كانت إحدى سمات الكتابة التاريخية الجديدة قد تمثلت في إنتاج ثنائيات جديدة بين «المستعمِر» و»المستعمَر» و»المقاومين للاحتلال» و»المتعاونين معه».
وكمثال على هذا الأمر، يدرس مغراوي تاريخ الجنود المغربيين في الجيش الاستعماري الفرنسي، اذ أنه رغم تقدم فرنسا تقنيا واقتصاديا بما فيه الكفاية لمواصلة مغامراتها الاستعمارية، إلا أنها لم تستطع الاعتماد على سكانها للشروع في حملات عسكرية. وقد كانت عملية تجنيد الرجال من مختلف المجموعات العرقية والدينية ذات دوافع سياسية، ذلك أن الفرنسيين فضلوا «المجندين من البلدان المستعمرة» على «جنودهم الوطنيين» للموت في سبيل زيادة التوسع الاستعماري، خاصة في حروب فرنسا الأوروبية الكبرى، حيث كان جنود المستعمرات يستخدمون بشكل رئيسي في الدفاع عن فرنسا نفسها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالمقابل فقد غابوا عن ذاكرتها التاريخية، ويتضح ذلك بجلاء في الفيلم الوثائقي حول الجنود المغربيين في الجيش الفرنسي (الغوم) «فإنهم حرروا مارسيليا، لكن لا يوجد شارع واحد في مارسيليا يحمل اسمهم». كما كان أحد المفاهيم الأساسية التي ترسخت في هذا الخطاب الاستعماري فكرة «التطوع».
وعلى المنوال نفسه، تم نسيان تاريخ هؤلاء الجنود، أو تذكره بشكل انتقائي داخل الخطاب القومي أيضا، حيث أشارت معظم الكتابات التاريخية القومية إلى الطريقة التي نظِر بها إلى التجنيد كجزء من سياسات الاستيعاب، التي اعتبرت على نحو غامض «جنود المستعمرة» تهديدا محتملا. وقد أشار العروي، على وجه الخصوص، إلى «السلوك الشديد الحذر، بل والغامض للمغاربة» الذين حاربوا إلى جانب فرنسا، وأوضح أن الفلاحين، الذين حرموا من أراضيهم، اضطروا بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة الناجمة عن اختراق الاستعمار الفرنسي للمناطق الريفية إلى العمل في مشاريع الأشغال العامة أو الانخراط في الجيش. ووضع العروي ظاهرة تجنيد سكان البلاد في الديناميات الاجتماعية الاقتصادية العامة وعلاقات السلطة المرتبطة بالاستعمار الفرنسي في المغرب.
وأمام هذه المعادلة، يقترح علينا مغراوي مقاربة شبيهة على المستوى الجزئي من مقاربة أدموند بيرك، المتمثلة في إعادة النظر في تواريخ المجموعات الثانوية التابعة، بيد أنه يقترح هنا أن يتم النظر لهذه التواريخ من زاوية التاريخ الشفهي والذاكرة الشعبية. ففي حالة الجنود المغاربة، وجد المؤرخ من خلال الروايات الشفهية التي جمعها في صيف عام 1995 و1996 وبعضها منقول عن أفلام وثائقية، أن الالتحاق بالجيش كان بمثابة طريقة للهروب من دائرة ما يشير إليه مثلا حسين أوميمون (شاهد) بأنه «ظلم».
ومن الأمور المعبرة، إشارته إلى العمل الإجباري (السخرة) باللغة الفرنسية. فقد كان فرض العمل الاجباري على الفلاحين المغربيين حاملي الفؤوس، وأولئك الذين حملوا الرفوش. وتتضح الناحية القسرية في الأعمال الإجبارية أيضا في إشارته إلى إلقاء كل من يرفض مهمته في النهر. وبيانه بأن ذلك «كان الظلم الذي دفعني إلى الالتحاق» والذي لا يحمل معه أي نوع من الولاء السياسي.
الإرادة الفاعلة للجماعات المحلية
من جانب آخر، يرى المؤرخ الأمريكي أدموند بيرك الثالث استاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا، أن الخطاب القومي بقي يتشارك مع الخطاب التاريخي الاستعماري الرؤية نفسها، لأن التحول الذي جلبه عصر التنوير الأوروبي، أتاح للأوروبيين أن يقدموا أنفسهم أمام الشعوب المستعمرة على أنهم أهل العلم والعقلانية، وأن أوروبا مصدر كل الإرادات الفاعلة. وهذا ما بدى لاحقا في جل الكتابات الوطنية التاريخية، التي غالبا ما لاقت صعوبة في الإقرار بالإرادات الفاعلة للجماعات من غير النخب. فعلى سبيل المثال، يجد علال الفاسي أن حركات مثل: «أبو حمارة»، و»الحفيظة»، و»تمرد جنود المخزن في فاس سنة 1912» هي عبارة عن حركات شجاعة، ولكن بلا أهمية سياسية. ولتجاوز هذا المأزق، يرى بيرك أنه لا بد من النظر إلى الحركات السابقة بوصفها حركات ذات طبيعة سياسية، بدل حصر مفهوم السياسي في جهة واحدة فقط، الفرنسيين أو الوطنيين، حيث أن القول بأن مجتمع ما قبل الاستعمار كان سياسيا يعني أنه مجتمع معقد، وحيوي، وليس ثابتا، أو جامدا في أنماط سلوكية عمرها ألف عام، بالاضافة إلى أن هذا التفسير الجديد يعني ضمنا، أن الجماعات المحلية قد تصارعت وتنافست مع بعضها بعضا، وفي الوقت نفسه، ضد هيمنة الاستعمار.
المومياء والدولة القومية في مصر
ولكون مصر تقع في شمال أفريقيا، وفيها ملايين المهاجرين المغاربة الذين استقروا فيها وأسهموا في تطويرها، فقد ارتأى محرر الكتاب إدراج دراسة للباحث اليوت كولا أستاذ مساعد في الأدب المقارن في جامعة براون، حول فيلم «المومياء» للمخرج المصري شادي عبد السلام، الذي حظي بتصنيف نقدي رفيع من قبل النقاد المصريين، حيث اعتبر ضمن أهم الأفلام المصرية. لكنه في الوقت نفسه لم يحظ بالتوزيع إلا بعد ست سنوات من إنتاجه (1969)، كما فشل الفيلم في جذب المشاهدين في عام 1975، وسحب سريعا من التداول.
تبدأ أحداث الفيلم في عام 1881عشية الحكم الاستعماري في مصر، وتدور حول عشيرة عبد الرسول في القرنة. فخلال السبعينيات من القرن التاسع عشر، قامت العشيرة بسرقة مجموعة من المومياءات الملكية، واغتنى أفرادها من بيع التحف القديمة في السوق السوداء لجامعي التحف والمتاحف الأوروبية. علمت هيئة الآثار التي كان يرأسها آنذاك غوستاف ماسبيرو بوجود التحف في السوق، واشتعل الصراع بين معسكرين متضادين: يمثل الأول الموظفون الأفندية الممثلون للبيروقراطية المستنيرة للدولة – وهي حديثة وعقلانية ومنضبطة – تسعى إلى المحافظة على الآثار من أجل الصالح العام والفائدة العلمية. ومن جانب آخر، هناك القبيلة – وهي تقليدية، وجاهلة، وتؤمن بالخرافات– تسعى إلى المحافظة على طريقة حياتها مهما كانت التكاليف.
وبحسب الباحث، يظهر الطابع المؤقت لهاتين «المصرين» مفهوما قاهريا مميزا للحداثة المستنيرة ونمطها الوطني الطليعي والتربوي: مصر القاهرية الحاضر والمستقبل، والعلمية المتطورة، قادرة على تعليم باقي مصر الذي ما زال يعيش في الماضي، تبدو وكأنها الشروط الأساسية للوطنية النخبوية: إخضاع الجنوب لحاجات الشمال، وإعادة تكوين الريف بحسب مخيلة الحضر.
يختتم الفيلم باستيقاظ ونيس (ابن القبيلة المرشد) من غيبوبته، واكتشافه أنه بمساعدته لمصلحة الآثار حكم على قبيلته بالفقر. ويشاهد الجنود وهم يقودون موكبا رزينا من التوابيت الحجرية من المقبرة لنقلها إلى متحف القاهرة. هنا يسجل الباحث ملاحظة مهمة حيال هذا المشهد، حيث يتقصد المخرج تصويره وكأنه احتفال جنائزي، وهو ما يتيح الإمكانية لقراءة مختلفة لنقل المومياء (من القرية إلى المتحف)، وذلك لأن عملية الدفن تدور حول نظام أبوي (قبلي) يخلي الطريق لنظام آخر(الدولة)، الإرث العائلي يخلي الطريق للإرث الوطني. ويبدو الفيلم هنا وكأنه تأمل في الفقدان والحداد بدلا من التعافي والإخلاص. وفي تفسير هذا التوتر بين مقدمة الفيلم (الرؤية الحضرية المستنيرة)، ونهايته (مشهد الجنازة)، يعتقد الباحث أن هذا التوتر قائم اساسا بين سيناريو الفيلم وإنتاجه، ويمكن تعليل ذلك جزئيا بالظروف الغامضة التي أحاطت بإنتاجه، فقد اكتمل إعداد سيناريو الفيلم، وتأمين تمويله من قبل وزارة الثقافة في مطلع عام 1967، وكما يقول شادي عبد السلام «كتبت قصة الفيلم قبل النكسة، ثم بدأت التصوير بعد ستة أو سبعة أشهر من الحرب. ولا شك في أنه كان للحرب تأثير كبير فيّ، خاصة أن والدي توفي بعد شهرين من النكسة، الأمر الذي أدخلني في حالة حزن شديدة، ولم أستطع تفادي تأثير هاتين الكارثتين».
مع أخذ هذا التسلسل في الاعتبار، بإمكان المرء اقتراح قراءة أخرى للفيلم بالإشارة الخاصة إلى الصراعات التأويلية التي قام بها شادي عبد السلام، مخرج ما بعد 1967 لمراجعة عمل شادي عبد السلام، كاتب السيناريو الناصري. هذا على الأقل، قد يفسر الفصل بين الوطنية الساذجة لسيناريو النص (الذي أجازته الرقابة في البداية) وتعقديات أسلوبه السينمائي السوداوي، وهو ما يفسر جزئيا الاستقبال البارد له لاحقا من وزارة الثقافة.
صحيفة القدس العربي – 8 أبريل 2016