“أعطت السوشيال ميديا لفيالق من الأغبياء الحق في الكلام، أولئك الذين كانوا لا يتكلمون إلاّ في الحانات بعد أن يحتسوا كؤوساً من النبيذ، دون أن يلحقوا الأذى بالجموع. لأنهم يرغمون على السكوت فوراً، بينما اليوم أضحوا يملكون الحق في الكلام كالفائزون بجائزة نوبيل.” إمبرتو إيكو
لم يكن ينقص الحراك التشكيلي الليبي فوضى وميوعة لتزيده وسائل التواصل الاجتماعي بعد دخولها الفضاء الليبي منذ نهاية العقد الأول من هذا القرن فوضى وميوعة، مخلخلة للمعايير وزائغة للقيم ومسفهة للممارسات الاحترافية والمفاهيم الجادة،. اليوم بدأ يتضح جلياً أن هذه القيم والمفاهيم والمعايير الفنية، التي كانت النخبة التشكيلية تسعى إلى أن تُؤسس من خلالها حركة فنية رائدة، قد اختلت وخرجت عن مسارها، ولذا بدأت تظهر قيم ومعايير ومفاهيم جديدة تدريجياً. ولئن ثمة شيء باقٍ من تلك القيم والمعايير الفنية التي تضمن إنتاج عملٍ فني إبداعي، فإنها لم تعد تضمن تأسيس حركة تشكيلية جادة، وبات أمرها في حكم العدم.
كنت في المقال السابق الذي عنونته (جدران القاعات الخاصة آخر ما تبقى للفن في ليبيا) قد ذكرتُ أن منتصف عقد الثمانينيات قد شهد طفرة نوعية من التطور في الحراك التشكيلي الليبي، لا سيما في طرابلس بفضل الأسماء الرائدة، التي اجتمعت في إدارة (وحدة الفنون التشكيلية) وعملت على ضرورة الرفع من مستوى الرؤية والخطاب التشكيلي، من الناحيتين التقنية والفكرية، ولتحقيق هذا الهدف، عملوا على جلب المواد الفنية الاحترافية، التي لم تكن متوفرة قبل ذلك. كما كانوا ينظمون جلسات نقاشية وعروض ضوئية مسائية وبعض الاجتماعات التشاورية مع باقي الفنانين من خارج (وحدة الفنون). لا يمكننا أن نغفل إن هذا الحراك الذي شهدته طرابلس جاء تماشياً مع موجة الحراك الذي شهدته منذ عقد الخمسينيات المنطقة العربية عامة، والذي نجم عنه تطور في الرؤية وفي استخدام اللغة البصرية؛ وكان ثمرة جدلاً ونقاشاً أُثير داخل تلك المجتمعات، ونتج عنها طرح أسئلة عدة منها على سبيل المثال سؤال: كيف يمكن إرساء ملامح وخطاب تشكيلي محلي يكون مختلفاً عما يطرح في الفن الغربي المعاصر؟ وهل يمكن ابتداع فن تجريدي عربي يتكئ على التراث والفن الإسلامي العربي المجرد؟. ومازلتُ أذكر جيداً أنه كان ثمة جدال ساخن بين فرقين من الفنانين التشكيليين في طرابلس. يدور حول أي المنهجين، هل التجريدية (فن اللاشكل) أم الواقعية (فن التشخصية) الذي يمثل الحداثة والإبداع حقاً؟. وكانت حجة من يؤيد الفن التجريدي والمعالجات الحديثة يرى أن الرسم الواقعي لا يمثل الحداثة وأنه خالٍ من الفعل الإبداعي وأن التصوير الفوتوغرافي جاء ليحل محله في نقل الواقع وتفاصيله. بينما كانت حجة مؤيدي الرسم الواقعي تقول أن الرسم التجريدي يفتقد إلى القواعد الأكاديمية وإلى الأداء الاحترافي المتقن وأنه يخضع للممارسة العفوية، أي إلى (الصدفة) وأن أياً كان يمكنه أن يدعي أنه فناناً قادراً على رسم لوحة تجريدية. وأذكر أيضاً أن الفنان الراحل الطاهر المغربي، بحكم اطلاعه الواسع وانفتاحه على كل الفنانين، قد فصل بين هذين الرأيين المختلفين، بدعوته الفنانين إلى أن يطلعوا بوعيٍ على التجارب الحديثة والمعاصرة في العالم، وأن يتخذوا من مسألة التجريب والتطوير منهجاً في أعمالهم، وأن يبدؤوا في استخدام آلات التصوير ومواد الرسم والطلاء والتلوين المعاصرة التي من شأنها أن تُحدث نقلة نوعية في أعمالهم. بالفعل فقد جلبت الأدوات الفنية منتصف عقد الثمانينيات، منها على سبيل المثال: أصباغ التامبرا والإكريليك والفرشاة الهوائية وعلب رش الطلاء البلاستيكي وآلات التصوير الحديثة، ما أحدثت حقاً تطوراً نوعياً آنذاك، بالتالي تغيرت نظرة الفنانين إزاء الفن ولغته المعاصرة. فها هو رسام واقعي مثل الفنان الراحل مرعي التليسي قد بدأ يميل إلى الحديث عن مفهوم التجريد الموجود في الطبيعة والمتمثل في أجنحة الفراشة وفي انعكاسات مياه البحر… وإلخ. في المقابل رأينا الفنان علي العباني الذي تنحو لوحاته نحو التجريد يلتقط بآلة التصوير الفوتوغرافي مشاهد تجريدية من الواقع. ولعل الصور الفوتوغرافية التي ينشرها على صفحته في موقع الفيسبوك من حينٍ إلى آخر خير مثال على ذلك.
ما جعلني أعيد إلى الذاكرة هذا الجدل الذي كان قائماً منتصف الثمانينيات هي العبرة التي يمكننا أن نستخلصها، في زمن انتشار صفحات التواصل الاجتماعي بعد أن تحولت إلى مهرجانات للتعليقات ولتبادل (الاعجابات) المجاملة، الأمر الذي زاد من تدني مستوى الفعل الإبداعي واختفاء التنافس الخلاق. اليوم لم يعد الفنان يقلق بشأن الاستحقاق الإبداعي، ولم يعد يخشى النقد الفني. بل بات كل ما يعرضه وأياً كانت وسيلته التعبيرية محط تقديراً وإعجاباً من قبل جمهوره الافتراضي. يندفع إلى نشر صور أعماله القديمة على صفحته الفيسبوكية باستمرار، آملاً أن يشبع غروره الفني وأن يضمن حضوره الافتراضي، دون الإحساس بالعقم الإنتاجي والإبداعي. هذه (الذاتية) هي المسؤولة اليوم عن غياب الحديث حول ضرورة أن يكون ثمة معرض عام سنوي للفنون التشكيلية، وأن يكون ثمة متحف للفنون الحديثة والمعاصرة مستقبلاً و(قاعة البلدية للفنون التشكيلية).
اليوم بدأ الحراك التشكيلي الإبداعي في بلادنا في مرحلة التفسخ والاضمحلال، بعد أن شهد بداية انطلاقه مع تأسيس (نادي الرسامين) في طرابلس مطلع الستينيات، ومحاولات تطوريه وتجديديه في منتصف الثمانينيات. أليس هذا هو ما يحدث الآن! وإلا كيف تفسر أننا لم نعد نحتفِ بأعمال إبداعية، كما كنا نحتفي في السابق بلوحات مثل: لوحة (تحية للوطن) للفنان الراحل الطاهر المغربي أو لوحة (القرية البيضاء) لعلي الزويك، أو لوحة (احتضار السمكة) للراحل مرعي التليسي أو التكوينات السريالية لعبدالفتاح اسماعيل، أو سلسلة المشاهد الطبيعية المجردة في لوحات (زمن للحلم) لعلي العباني أو التكوينات المستحيلة المجردة للنحات علي مصطفى رمضان. أليس جل الإنتاج التشكيلي الليبي اليوم يكاد يخلو من لوثة الإبداع والتجديد؟ وإنتاج الشباب مصابٍ بذاء التقوقع والجمود؟. والمعارض الفردية تُنسى سريعاً، ولا تترك أثرٍ في الوجود. إن الغياب المزمن للعمل الإبداعي، تسبب في غياب التشكيل الليبي عن الكتب التي تؤرخ للفن العربي، بل الأنكى، غيابه عن المعارض الكبرى وعن المتاحف وعن المجموعات الفنية الخاصة، وحتى عن الحديث الصحافي العابر حول المنجز التشكيلي العربي.
ينبغي أن يعترف – أقصد هنا ما تبقى من الفنانين التشكيليين رواداُ ومخضرمين – أنهم قد خدعوا يوم أن تخلوا عن الحق في أن يكون لديهم كيانٍ إداري، مخولاً بتنظيم المعارض والملتقيات التشكيلية في زمن (الجماهيرية)، الذي منعت فيه الجمعيات وحربت النقابات وميعت الروابط والاتحادات المهنية. لقد سحب اللانظام السابق البساط من تحت أرجلهم، وأغلق (وحدة الفنون التشكيلية)، ما أدى إلى عواقب وخيمة منها أولاً: غاب تنظيم المعارض التي تسعى لعرض الإنتاج الإبداعي وفق رؤية تمثل (الثقافة الرصينة) وليس (الثقافة الشعبية) السائدة الآن. ثانياً: لم يعد لدى الفنانين الليبيين أي كيان يكون بمثابة (عنوانٍ) رسمي، تصل من خلاله دعوات المشاركة في المعارض العالمية، وأضحت كل مشاركاتهم تتم بشكل شخصي وفوضوي. ثالثاً: لم يعد ثمة جهة مخولة بإصدار تصاريح رسمية لتسهيل سفر الفنان بلوحاته للمشاركة في معارض خارجية. رابعاً: لم يعد ثمة جهة رسمية ليبية مخولة بتنظيم المعارض التشكيلية على المستوى الدولي، وبهذا أُغلق الباب أمام تأسيس أي منشط تشكيلي دولي في ليبيا. خامساً: لم يعد ثمة جهة رسمية مخولة بالإشراف على إنشاء وإدارة منشأة أو رواقٍ أو متحفٍ للفنون التشكيلية مستقبلاً. سادساً: لم يعد لدى الفنان أي كيان يدير شؤونه ويتقدم للبرلمان لسنِ قوانين وتشريعات تحمي حقوقه.
عودٌ على بدء، فمن مظاهر الميوعة التي تجسدت مؤخراً بسبب غياب القيم والمعايير الاحترافية ، ما حدث في المعرض العام الذي نظمته (الجمعية الليبية للفنون التشكيلية) أواخر شهر يناير 2021، بمناسبة الإعلان عن تأسيسها وإشهارها، والذي احتضنه رواق دار الفنون بطرابلس. سأذكر هنا خمس نقط توضح التراجع والنكوص الذي حدث:
- وقع تداخلٌ بين التجارب والأسماء المبتدئة والمخضرمة، وبين القيم الفنية المتواضعة والمحترفة، وبين اللغة التشكيلية البسيطة والمعقدة، ما أدى إلى فوضى في العرض وتدني في المستوى العام.
- 2- جل الأعمال التي عرضت كانت قديمة جداً.
- سُمح لأحد المشاركين بعرض عملاً ليس من إنتاجه، بل من إنتاج رسامٍ آخر.
- عنون المعرض بـ(نوافذ تشكيلية) هو عنوان مسجل لدار الفنون، التي دأبت على إقامته سنوياً منذ تأسيسها في تسعينيات القرن المنصرم.
- 5- بعض الأعمال التي عرضت كانت أعمال تجارية صرفة وتقليداً لأعمال فنانين آخرين.
قيّل غداة إقامة المعرض المذكور أعلاه أنه معرض ناجح. لكن اليوم أصبح تقييم أي معرض فني يتم وفق الضجة التي يثيرها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وليس وفق ما يقدمه من إبداعٍ فني وتجديد في الخطاب التشكيلي. لقد أضحت مواقع التواصل الاجتماعي هي المصدر الأهم والمفضلة للأخبار وللصور لدى وسائل الإعلام الأخرى من (إذاعات وقنوات وصحف)، التي بدورها تعيد نشرها لتزيد من مسافة التفاعل بين الفنان والمتلقي تباعداً. اليوم لم تعد رؤية الأعمال الفنية مقصدَ أغلب رواد المعارض ولاسيما الشباب، بل بات التقاط الصور والسلفيات أمام الأعمال الفنية هو المقصد الأول والأهم، وتحولت اللوحة أو أي عمل فني إلى (ديكور) فقط خلف صاحب\ة الحساب في مواقع السوشيال ميديا.