قصة

رحلتي للماضي

من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري. معرض نداء الماء، تونس 1 إلى 22 ديسمبر 2023م.

في يوم بارد من شتاء يناير الجميل ، السماء فيه كانت حُبلى بالمطر، والشمس تحجبها السحب، وعلى تمام الساعة الخامسة مساءً، ومن داخل غرفتي الصغيرة اقلعت رحلتي المتجهة إلى عالم ذكرياتي، إقلاعاً ساحراً َ،ليس كأي إقلاع، كنت أنا الوحيدة على متن الطائرة، لا كابتن، لا مضيفة ، ولا ركاب، ولا حتى وجبة طعام ساخنة تزيل آثار البردة التي لازمتني منذ عدة أيام.

كان المطار عبق الذكريات، وجواز السفر حالة سرحان، والختم تكفلت به تلك التفاصيل التي حوتها الأوراق والدفاتر المتكدسة في حقيبة قديمة منذ سنوات في إحدى أدرج تسريحتي القديمة.

تصفحت الأوراق والدفاتر، وفاضت عيناي بالدمع من دسامة ما فيها من جمال ووجع أيضا، وبدأت الذكريات تصطف لتنال دورها في مسار الاستجلاب على حسب ترتيبها في تلك الحقيبة: تعديلات القامة العلمية الفريدة من نوعها الدكتور سعيد الفاندي على دفتري الذي حوى أفكاري الأولى في رسالة الماجستير، اعترف أنه كان ذا الفضل الكبير في صقل أسلوبي في الكتابة.

الكتاب المقدس الذي أعطتني إياه صديقتي الغالية إصلاح البخاري رحمها الله، لاقتبس منه بعض دلائل زيف اليهود عن قولهم أنهم شعب الله المختار ، ولقد وضعت فيه وردة، اتذكر وقتها قالت لي: لا ترميها، وتذكريني بها عندما تشتاقين إلي، فالمسافات بيننا بعيدة، فهي من العاصمة وأنا أقطن مدينة بعيدة في غرب البلاد اشتهرت بزيت الزيتون والتين ، بقت الوردة، وماتت إصلاح صاحبة الملامح الطفولية.

صوري في يوم  مناقشتي لرسالة الماجستير، كان يوماً لم تتكرر تفاصيل جماله، اتذكر وقتها كنا في حالة حداد على خالي، فلم يُدسم ذلك اليوم بصواريخ زينة أو زغاريد أو أية معالم فرح، ولكني شعرت بأن الجمادات من حولي فرحة أيضا وإن لم تنطق، هكذا شعرت وقتها، تبخر تعب السنين وجاءت اللحظة  الموعودة، وارتسمت أمامي صورتي  وأنا اتنقل بين المكتبات: مكتبة الأكاديمية، مكتبة جمعية الدعوة الإسلامية، المكتبة القومية، اعترف كانت لي علاقة وطيدة  بالكتاب الورقي، ولكن لعنة التطور قتلت هذه العلاقة، فعالم الانترنت قدم البديل.

زهرة الياسمين المرسومة على ورقة  بأنامل تلك الغالية، التي تقابلت معها في خضراء الطبيعة تونس الجارة، أتذكر عندما تقابلنا سألتها من أي مدينة أنتٍ، ردت والغضب رسم خرائطاً على ملامحها :من ليبيا، قلت لها: أعلم ذلك فملامحك نفس ملامحي ، ولكن أعطيني إشارة دالة عن مدينتك، فرسمت وقتها زهرة الياسمين على ورقة، فعرفت أنها من درنة الغالية، أعترف وصلت صداقتنا إلى مصاف زينته النجوم، ولكن وآسفاه فيضان درنة اجتاح ذاكرتها، واقتلع مكانتي عندها، وزج بي في قاع البحر مع من جرفهم السيل، لا ألومها اليوم حينما أحدثها ولا تتذكرني،  فهول ما حدث هناك عظيم، ولكن شوقي لها جعل الدمع يحفر أخدوداً على وجنتيّ، نسأل الله أن يعافيها وتعود  لي صديقة مرحة بقلب طفلة كما عهدتها.

تقارير طبية، ووصفات أدوية تنوعت أختامها بين ليبيا ومصر والنمسا، دون جدوى تذكر، فالتعايش بات هو الحل الأنسب لي.

وما بين الاستشراق ومقارنة الشرائع مقترحات بحوث عديدة، تستنجد آما آن الأوان لأرى النور فالعتمة تكاد تقفل مساراتي.

قصص قصيرة عن ثلاثية الحب والجمال والحرب، كتبتها منذ سنوات، وكان المُنى أن أنشرها، ولكن التسويف خيارى الدائم.

صوري الشخصية لمراحل العمرية، اختلفت ملامحي فيها، سنة الحياة، فالاقتراب من النهاية أصبح يُحفر على ملامحي تفاصيله.

رسمة بقلم رصاص كل من يراها يقول: وكأنها أنتٍ ، رسمتها لي ابنة صديقتي نور الجميلة ، فتاة صغيرة ولكنها تملك ريشة بيكاسو ورؤية دافنشي، أتوقع لها مستقبلا ختامه العالمية.

مطويات عديدة عن أهمية الانتخابات، ولكن وآسفاه فأنا في مدينة ليس فيها مجلس بلدي منتخب، وفي بلاد زمام أمرها في أيادي حكومة مؤقتة.

صور لتقارير عملي في مكتب دعم وتمكين المرأة في التعليم حُولتها للوزارة، استغرب عن أي تمكين كنت اتكلم، فالمرأة مُمكنة، أم أن المبتغى حصة الرجل أيضا.

زجاجة معقم طبي، أعطتني  إياها سيدة من تاورغاء، التقيتها بالقرب من مدخل الأكاديمية الليبية للدراسات العليا في خريف عام 201‪3م، تبحث عن عمل يسد قوت يومها،  ولو كان تنظيف دورات مياه، تبادلنا الحديث في طريقنا لمكتب الخدمات، عباراتها  كانت متشبعة بالوجع عما حدث في مدينتها من صراع بين الأخوة، أتذكر عندما دخلنا إلى مكتب الخدمات قلت للمديرة :هذه السيدة من تاورغاء تبحث عن عمل، وإذ بها تشهق شهقة قوية، وقامت من على مقعدها  وأخذتها بالحضن، وقالت لها: أنا جارتك من مدينة مصراتة، ثم نظرت إلي وهي مبتسمة ثم قالت: دورك أنتهي هنا.

بريد إلكتروني لشروق، طبيبة عراقية شيعية، التقيتها في قمرت بتونس، تبادلنا الحديث على شاطئ البحر عن معتقدات الشيعة، من : تقية ورجعة، وإمامة وغيرها من المعتقدات، اعترف حاولت أن اقنعها بمخالفة معتقداتهم للعقل، ولكن عبثاً، كيف تقنع من يمشي مائة وخمسون كيلواً متراً سيراً على الأقدام، ليشارك بضرب نفسه بالسلاسل على توريث خطيئة ليس له فيها أي ذنب يذكر بأن يتخلى عما يعتقد .

وفجأة انقطعت رحلتي، فنافذة غرفتي فتحتها رياح قوية ماطرة، وتذكرت أن الملابس على حبل الغسيل، فخرجت مسرعة لجمعها حتى لا تبتل، وتركت الحقيبة مفتوحة، والذكريات التي لم تنل حظ الخروج تنادي :مازال المزيد هنا، فهل من عودة؟ فوعدتها برحلة أخرى وتابعت المسير.

مقالات ذات علاقة

خَــرْبَشَـــاتٌ صِبْيَـانِــيَّةٌ

خالد السحاتي

القفزة

رائحةٌ من سكينة

محمد دربي

اترك تعليق