المقالة

الأدب والأخلاق

من أعمال التشكيلي المغربي خليل بوبكري (الصورة: عبدالمجيد رشيدي-المغرب)

قضية علاقة الأدب (والفن أيضا) بالأخلاق، علاقة ذات تاريخ قديم. ولعل أول من ناقشها ونظَّر لها فلسفيا الفلاسفة اليونانيون. وسنكتفي هنا بمثال واحد هو رأي أفلاطون1 في علاقة الشعر بالأخلاق (لأنه حينها لم تكن ثمة أجناس أدبية غير شعرية). فلقد عادى أفلاطون الشعراء والفنانين وقال بأنه لا مكان لهم في جمهوريته المقترحة باستقلال عن رقابة الدولة. واقترح تأسيس هيئة رقابية تتولى هذا الأمر. يقول:

«علينا أن نعين رجالا لا يقل عمر الرجل منهم عن خمسين عاما لكي يفحصوا هذه القصائد وهذه الرقصات ويختاروا منها بعضها. وكل شاعر من الشعراء القدامى بدا في رأيهم صالحا فهو مقبول، وكل من بدا لهم غير صالح على الإطلاق فهو مرفوض رفضا باتا، وكل ما بدا مشوبا أعيدت صياغته بعناية. وسوف نجند لهذا العمل شعراء وموسيقيين وننتفع من كفاياتهم الشعرية، ومع ذلك فلن نعتمد على نزواتهم أو رغباتهم إلا في فترات نادرة». ويقرر أنه «لا يجوز للشاعر أن ينظم شيئا منافيا لقوانين المدينة وأحكامها الخاصة بما هو حسن وخير”. وواضح هنا أن أفلاطون يلزم الشاعر بإخضاع شعره للمواصفات الأخلاقية في المجتمع المعني.

في الأدب العربي أخذت القضية بعدا أكثر حدة وأكثر مساسا بالواقع بسبب قوة الحضور الديني (أي أن الأمر كان متعلقا بالواقع الفعلي، وليس مجرد تصور فلسفي) ودارت بشأنها نقاشات حارة متعارضة. سنلم هنا بآراء النقاد العرب الذين رفضوا أن تكون الأخلاق والدين مقياسا للحكم على جودة الشعر. فالشعر فن له جمالياته التي ينبغي أن تقاس جودته من عدمها على محكها وحده. يقول إحسان عباس:

“تبدأ هذه المشكلة مبكرة في تاريخ النقد العربي بالفصل – في الموضوع – بين الشعر والدين، فالشعر عند الأصمعي [ت 216هـ] مجاله الشر. وإذا تناول الموضوعات الأخلاقية والدينية (الخير) ضعف وتهافت، وقد كان هذا المعنى واضحاً عند اشد الأخلاقيين تزمتاً، ولهذا اخرجوا من الشعر ما كان وعظاً أخلاقياً، وعندما استدار النقد إلى ما يشبه الخاتمة عند ابن خلدون ظللنا نسمع أن من يحاول القول في الزهديات والربانيات والنبويات يسقط سقوطاً ذريعاً، ويعلل ذلك بسبب ابتذال معانيها بين الناس، فالالتفاتة صحيحة، ولكن التعليل ربما لم يكن كافياً.”

أما قدامة بن جعفر(ت 337هـ) فكان يرى أن معيار الحكم على جودة شعر أي شاعر هو التجويد الجمالي بغض النظر عن فحش المعاني الواردة فيه “كما لا يعيب جودة النّجارة في الخشب كرداءته في ذاته”. أي أن معيار الحكم في النجارة هو مدى إتقان النجار صنعته، بغض النظر عن رداءة الخشب الذي يستخدمه. وابن سلام الجمحي (ت 231هـ) وضع تصنيفه لطبقات الشعراء منذ ما قبل الإسلام على أساس جودة أشعارهم، وليس على محتواها الأخلاقي والديني 2.

رأي هؤلاء النقاد ممن ذكرنا يختص بالشعر، لأنه لم تكن توجد أجناس أدبية غيره في زمنهم، ولكنه ينطبق على الآداب والفنون جميعا. فليس من مهام الآداب والفنون الحظ على مكارم الأخلاق، كما أنه ليس من مهامها التحريض على مساؤئها، وإنما هي تتعامل مع الإنسان في مختلف حالاته ومع الحياة في شتى تفاصيلها من وجهة نظر الفن بما هو فن، أي من حيث كونه عملا يستهدف المتعة الجمالية. كما أن أهمية العمل الأدبي، بالذات الرواية والقصة والمسرحية، تؤخذ في دلالاتها الكلية، وليس في جزئياتها التفصيلية.


1- انظر عمر أبو القاسم الككلي: تأسيس آيديولوجيا الاستبداد http://alwasat.ly/news/opinions/113447?author=1

وأيضا: من رقابة السلطة إلى سلطة الرقابة http://alwasat.ly/news/opinions/109999?author=1

2- د. إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العرب: نقد الشعر، من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري. دار الثقافة. بيروت- لبنانز ط4. 1983

3- انظر د. يونس إبراهيم أبو مصطفى: موقف النقاد من قضية الالتزام الخُلقي في الشعر

https://www.alukah.net/literature_language/0/41524/%D9%85%D9%88%D9%8%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%AF-%D9%85%D9%86-%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B2%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8F%D9%84%D9%82%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1/

مقالات ذات علاقة

مجلس الثقافة الليبي (صرح الشكل وخواء المعنى)

صالح قادربوه

في حب الأرشيف

محمد الترهوني

ازمة قيادة ام غياب إرادة

المشرف العام

اترك تعليق