قصة

العطر المُعتق

محمد دربي

من أعمال التشكيلي العراقي سعد علي

1

كان البحر في قداسته يطالع بساتين المدينة محدقاً في الضوء المنعش الودود المنهمرمن عين الشمس في نهارٍ بهيج كست الشاطئ بهجة، اقتربت منه صبية كأنما حملتها الرياح الأليفة له، شعرها مثل الموج ألأزرق المغطى برذاذٍ ناعم معطر بماء الورد وفي عنقها عقد زُمردٍ يشعل الفؤاد التياعا.. دنت الصبية ولامسته.. لامست البحر فلامست رهافة انغامه وعندما ابتلت قدميها البلورية بذلك المالح هفا رذاذ الموج حناناً واندفاعأ.. إقتربت من الموج أكثر ومع كل موجة تقفز برشاقة كأنها تنثر الأزهار فوق الموج..  سالها الموج قبل أن يفنى في سيره: لماذا تأخرت؟ كدت أن أنسى حروف النجوم ونهنهة الموج ومذاق الملح وذاكرة البساتين الدافئة! رأى الموج أنّ اِبتسامتها أورقت وأنّ نسمةَغيمةٍ حلوة تسري على شعرها لم تتبع سواها.

2

عند حديث البحر مع الصبية اعتاد أنْ يحدّثها بسؤالٍ وجوابٍ، وجواب وسؤال، سألها متحيراً: يا حيرتي فيما أرى زهرة فريدة أطلقت للروح السجينة الجناح، أم خيول من الغيم تركض نحو هتاف المنتهى والأفق البعد؟ الصبية صامتة، سألها البحر: من علّم عين السماء أنْ تهواك بل كيف هامت بكِ العين، وكيف لي أن أنهبْ من غفلات الدهر معك ساعةً اُنسٍ أُحدّثك فيها عن اسرارنا، اسرار البحر؟

3

أحست الصبية برعدة لذيذة وتصاعد من قلبها صوتٌ حالم، ووثبت برشاقة أمام الموج المدندن بترانيم العشاق وفتنة الماء..  تجمعت السحائب الراقصة وهي تتنهد بنشوة ملهوفة تجمعت وهي لا تخفي اسرارها عن الصبية.. شرعت تحلم، سألها البحر: بأي الألوان ترين حلمك؟ أجابت: ماذا تعني؟ أجاب: بأيّ لغة تتحدثين في أحلامك؟ أجابت: ماذا تعني؟ أجاب: عندما تحلمين بأي كلماتٍ تتحدثين وأي صور ترين، أهيّ رؤى أم ليست رؤى.

4

في لحظةٍ صمتَ، صمتَ البحر ألا من صوت الموج، هفى الصمت على الصخور وتنهد الموج وسرت النشوة في لسانه وأطرق مسغرقاً في لثم قدمي الصبية. قطع البحر صوت الصم، سألها مرة أخرى: من أين يأتيك زهر الكلام وكيف يشيع الرحيق بثغرك؟ رأت أنْ تجيبه بسؤالها الذي أرهقها عن الحلم: هل يمكن توجيه أحلامنا إلى حيث نتمنى ونريد؟ البحر صامت، والصبية تسأل: هل يفقد الحلم معناه بين المنام والصحو؟ لم يجب، أورقت اِبتسامتها من جديد وأضافت: زهر الكلام يأتيني من الأحلام، أما كيف يشيع الرحيق بثغري فذلك عندما أرتضي بأنْ أشرب من كأس أحلامي ماء الحياة. 

5

مع صمت الأحجار أدركت الصبية أنّ السحب قد امتلأت بالأحلام، وهبط الغيم وتلألأت الصبية في مواهب مفاتنها وزادت قفزاً مع الموج المتسارع اللهوف، والقت بجسدها في اليم كأنه باقة فلٍ مدلهةٍ، وطفقت تسبح نحو الضفة الشمالية فابتسم البحرفي إبتهال وقال والغيم يشاكس الشمس: هي الدنيا تًتيح ما لا يُتاح، فلا يليق بالبحر الا عاشقة كهذه صبية فرحة لا تخشى من الغرق.

مقالات ذات علاقة

قصة قصيرة

مريم الأحرش

شاحنة حبوب

علي جمعة اسبيق

النوم اللذيذ

اترك تعليق