قراءات

للشوق أغنية

لكل أغنية مهما كان نوعها وصفتها ثلاثة أركان لا تتأسس إلا بهما مجتمعين وهما الكلمات ثم اللحن ثم المؤدي , ولكي تصبح الأغنية ناجحة لا بد من ان يحدث قدرا من الأنسجام والتناغم ما بين العناصر الثلاث وأي تنافر ما بينهما يجعل حظوظها في النجاح ضئيلة أو حتى معدومة أحيانا.

الفنان عادل عبدالمجيد.
الصورة: عن الشبكة.

نقول هذا الكلام بمناسبة الحديث عن أغنية ” هز الشوق حنايا الخاطر ” للفنان الليبي عادل عبد المجيد , والتي كغيرها من الأغنيات أنبنت على العناصر سابقة الذكر , والتي وبعد أجتماعها وتضافرها في وِحدة فنية واحدة حدث نوعا من التوافق والتناغم أضفى على العمل صفة النجاح والقبول لدى المتلقي , ليس المتلقي الذي عاصر زمن صدور الأغنية فحسب بل حتى المتلقي المستقبلي , وبقاء أغنية معينة في الذاكرة الجمعية لمجتمع ما وحضورها لدى الأجيال اللاحقة من المستمعين يجعل منها أيقونة أو دُرة من الدُرر التي ترصع عقد الفن والغناء لذلك المجتمع .
كلمات الأغنية هي البداية والهيكل الذي سيتأسس عليه العمل وإذ يكتب الشاعر كلمات الأغنية فإنهُ يفتتح مشروعها , يأتي من ثم اللحن والمؤدي , هذا باستثناءات قليلة يكتب فيها الشاعر قصيدته وفي باله مطرب معين أو ملحن محدد , أما في العادي من الحالات فإن الشاعر يقول قصيدته في المطلق ليأتي بعد ذلك من يحيلها إلى أغنية , ومثلما أن كلمات أغنية ” هز الشوق ” عذبة يطيب الحديث عن عذوبتها وتتبع دلالاتها الإنسانية ومعانيها السامية , وهي تندرج في سياق الكلمات العاطفية وكتبها الشاعر الغنائي فرج المدبل وفيها يقول :-

” هز الشوق حنايا الخاطر حدر دمعك يا عين ” حين هز الشوق أو رجّ سكون الخاطر وأيقظ في النفس أشواقها الخامدة وبلا مقدمات هطل الدمع تلقائياً ودون افتعال وتصنع ولمجرد أن هاج الشوق وهتف هاتف الذكريات تداعت الدموع وجرت استجابةً لحرقة الأشواق , وهنا المُحب الذي يتوجه بخطابه للمحبوب بعد هذه التهيئة , يخبره بما حدث وبما جرى حال غيابه , وفعل الهز بكل ثقله الدلالي والشعري يحيل مباشرة إلى الآية الكريمة في سورة مريم ” وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ” .

” خطرت انت مسحت دموعي
خطرت انت نورت شموعي ” .
ومثلما أنك هيجت أشواقي وأخرجت نفسي عن هدوئها المعتاد عندما مررت بالذاكرة أو ” خطرت ” التي تقابلها بالعامية الليبية , جفّت دموعي المرسلات وأشعلت شموعي المنطفئة وأنرت دربي , ولنلاحظ دائما أن المُحب يخاطب حبيبه بصيغة المُذكر كما درجت العادة في شعر الغزل العربي لا سيما القديم منهُ .

” يللي حتى وانت مباعد
وين تخطر تهدا الخواطر
حبيبي تهدا الخواطر ” .
وفي هذا المقطع الشعري صورة جميلة , فبمجرد أن يمر المحبوب بالذاكرة حتى يهدأ خاطر المُحب ويشعر بالأرتياح وليس من الضروري أن يحضر متجسدا ويكفي ان يحضر كطيف أو كخيال أو كفكرة ليتحقق الهدوء ومهما بالغت الحياة في قسوتها , بمقدور المُحب تقبلها فقط لأن له محبوب ولان لديه ما يعيش لأجله ولديه ما يستمد منه القوة اللازمة للحياة , وتأكيداً لدور الحبيب المهم في مسار حياة المُحب يتكرر المقطع الشعري الذي يقول :-
” حبيبي تهدا الخواطر ” .
ومن تكرار كلمات خطرت , تخطر , الخواطر , وتنوع قافية كلمات الأغنية نلحظ وجود تناغم واتساق قل أن نعثر عليهما في غيرها .
” وين تخطر يا ربيعي الدايم قلبي الهايم
يطير بشوقه مع النسايم ” .
هنا يُشبِّه المُحب حبيبه بالربيع الدائم والخضرة المتصلة , وليس بعد هذا الوصف وصف يسبغه محب على حبيبه , لأنهُ يكون قد شبههُ بما هو جميل وبالغ في توقيره ووفاه حقه من الوصف والتصوير , ورغم أنَّ الصورة الشعرية مستهلكة إلا أنها أدت دورها في القصيدة , وليت الأمر ينتهي عند هذا لحد , فقلب المحب يستحيل إلى طائر خفيف يهيم عاليا مع النسمات ويطير متحررا من ثقله في سماءات الخفة .

” شورك يا غالي عليَّ
وننسى مع فرحة معادك مر بعادك ” .
ناحيتك يا حبيبي يأخذني الشوق , ومع شعوري بالفرح لأقتراب لقياك ولدنو موعد رؤيتك , أنسى ما مر بي من آلام الانتظار والبعد , والغياب الطويل عنك أيضاً , وعبر كلمات معادك التي تعني في العامية ميعادك أو موعدك , وكلمة بعادك أو ابتعادك يتشكل تناغما خفيفا يمنح القصيدة خفة هي في حاجة إليها , ويستمر المُحب في البوح بمكنونات نفسه وليس لأي أحد بل لحبيبه تحديدا فيقول :-
” ونرحل في زمان ودادك ونشوفك حنون عليّ ” .
أي تأخذني الذاكرة إلى زمان عشناه معا في هناء ومحبة وأتذكر لمساتك الحانية وحنوك على شخصي واهتمامك المُبالغ بي .
ولمجرد ان تعبر ذاكرتي فآنك تفعل فعل السحر في نفسي الأمارة بحبك , فعندما أو :-
” وين تخطر يا حب سنيني تفرح عيني
تهدا روحي يروق حنيني
ذكرى ايامك ياهوايا ” .
ويكفي أن أتذكرك حتى أجد الراحة التامة وسكينة البال ويصبح للحنين طعم آخر هو طعم الهناء والفرح ولا يعود يعذبني في غيابك .
” بأيامك عايش من صغري رحلة عمري ”
وإن كنت أُحبك فإنني أفعل ذلك منذ زمن طويل قد لا أستطيع تحديده لأنه موغل في القِدم , ولا عجب إن قلت أنه يعود لبدايات العمر .
” ونسيانك ما يراود فكري كنت بعيد ولا معايا ” .

الشاعر الغنائي فرج المذبل.
الصورة: عن الشبكة.

ومهما حدث فإنني لا أفكر في نسيانك أو أن هذا الأمر لا يراودني ولا يخطر لي على بال بالمرة فاطمئِن يا حبيب من جهتي واهنأ بالاً لان ما احمله لك من محبة في قلبي غير قابل إلا للزيادة ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينقص أو يتبدل وأُطمئنك بأنني سأظل مخلصا لك في الحضور وفي الغياب في التجلي وفي التخفي , فالقصيدة أيضا تحتوي على نفس صوفي غامر وشعاع خاطف يعبرها ويظل يُضيء جنباتها مع أول كلمة فيها وحتى قبل أن تنطوي بقليل .
ولا بد من التنويه إلى أن كل كلمة وكل جملة في القصيدة أدت دورها المنوط بها باقتدار ولا أعتقد أن هنالك كلمات أو جُمل زائدة عن حاجتها كما لو انها مفصلة تماما على اللحن وصوت المطرب , هذا ما يمكن قوله عن كلمات الأغنية التي بقدر ما هي مباشرو وبسيطة وسهلة التناول وخفيفة علي القلب واللسان هي موحية ودالة وعميقة قابلة للتأويل وتوليد المعاني وباعثة على الاجتهاد .

وعن الصوت الذي تضافر مع اللحن والكلمات لخلق هذا الأثر الفني الجميل ماذا يمكننا أن نقول سوى أنهُ ليس بغريب كونهُ صوت الفنان عادل عبد المجيد صاحب الأعمال الفنية المتميزة التي تبوأت مكانتها في الوجدان الليبي ورفدت المكتبة الفنية , وفي حين اندثرت بعض الأغاني الأخرى لفنانين آخرين وسقطت من الذاكرة بقيت أغاني عادل عبدالمجيد حاضرة وحية حتى اللحظة وتجد أذانا صاغية ويقصدها الكثيرين من عشاق الطرب الأصيل للأحتماء بها من فجاجة بعض الألحان المعاصرة , بل أنهم يفرون إليها للأحتماء بها من بشاعة الواقع وتأزمه ويطيب لهم المقام في براح رومانسيتها وخفتها , ويؤكد هذا الإستنتاج ما نراه اليوم من احتفاء بها وإعادة توزيعها موسيقيا وتأديتها من قبل مطربين وفنانين جدد على الساحة الغنائية .

في صوت عادل عبدالمجيد ما لا نستطيع اقتناصه من الخصائص والسمات غير أننا نحس بها ونلاحظها مع كل إنصات , ولا نعطي الصوت حقه كاملا إذا ما قلنا أنه صوت شجي باعث على الشجن وقادر على خلق أجواء من الطرب تصيب المتلقي وتجعله يعيش حالة شعرية خالصة , سيما وأن الصوت بدبدباته الهادئة وببحتهِ التي لا تخلو من عذوبة ينطوي على نبرة حزن شفيفة سرعان ما تنتقل عدواها للمتلقي وتحرك فيه السواكن ما أن يعانق بسمعه إيقاعها , إنَ الصوت بهدوئه ورِقته وحُسن تحكم صاحبه في طبقاته المتعددة وتدفقه السلس قد يثير إلى جانب الشجن وهو الشعور الجميل والأسر أحيانا , قد يثير ما ركد من ذكريات ويوقظ في النفس الحنين , نوع من النشوة واللذة الروحية وحالة من الطرب تعتري المرء إذ يتخفف من مشاغله ويضع التزاماته جانبا ويتفرغ للإنصات والتفاعل مع جماليات الأداء عند المطرب عادل عبد المجيد , وكلنا يعرف أن هذا الأسم عبارة عن أسم فني والأسم الحقيقي للفنان هو عبدالمجيد إبراهيم جويلي , وأدي بالإضافة إلى هذه الأغنية المتكاملة الأركان والجميلة من أين ما أتيتها , أدى أغاني , عاتبيني ويصعب علينا تبعدو وتنسونا وليبيا حلوة وحلاوة الشهد وهوّن عالروح وإلهي لا شريك لك ويا بحر الحب ودللتني بغرامك ولوكان حبك ما سكن وجداني وأفرح وخلي الفرح ديما هايم و ورد الجناين ونار الغيرة ويا سلام عالنسمة وغيرها من الأغاني .

وأذكر في هذه السانحة واقعة لقائي الوحيد بالفنان , إذ حدث بحسب ما أعتقد سنة 2007 أن أنتج الفنان عملا غنائيا للإذاعة الليبية وللحصول على مقابل بيع حقوق هذا العمل طُلِبَ منه التصديق على العقد المبرم من مصلحة الضرائب حيثُ أعمل وحيث التقيت بالفنان رغم أن اللقاء لم يدوم طويلا إذ سرعان ما أنهي الفنان اجراءات التصديق وغادر لحال سبيله , وأول ما لفت انتباهي في شخصيته هو الهدوء والرصانة وبعض الوقار المرتسم على محباه ولا تنفك شخصيته تبثه فيمن حولها , تماما بدا هادئا ذلك الوقت كما في أدائه الفني في أغنياته .

وما نقص من الأداء والكلمات – هذا إن كان ثمة نقص – أكمله اللحن الشجي الذي انسجم إلى حد كبير مع صوت الفنان وأقل ما يمكن أن نصف به اللحن هو أنه عذب ويحس المستمع إليه بالإشباع والأمتلاء إذ يلبي حاجته إلى الطرب ويغنيه عن الإنصات إلى الكثير من الألحان الغير متميزة أو العادية من تلك التي نجدها في كل مكان ثم سرعان ما يطويها النسيان , وعندما نقول متميز نعني أنه من فصيلة الألحان التي يضعها الموسيقار الكبير علي ماهر على سبيل المثال والتي بعد أن تتسرب إلى الذائقة وتسكنها إلى الأبد , لا بد من أن يستحضرها المتلقي بين الفينة والأخرى ويدندن بها بينه وبين نفسه , ويُذكر أن لحن هاته الأغنية كان قد وضعه الفنان عادل عبد المجيد وفصّلهُ على مقاس صوته كون الفنان يدرك جيدا وأكثر من أي شخص آخر امكانيات صوته وحدود معطياته , واللحن كما الكلمات أقرب إلى البساطة والأنسيابية كما لو أنه عطر أخاذ , أقرب من أي شيء آخر ولا يمكن تشبيهه إلا بينبوع ماء عذب يتدفق رقراقا بلا صخب وبلا ضجيج مرافق وفي تدفقه الهادئ يروي قصة العذوبة ويسرد تاريخ النشوة ويُسكت عطش الظامئين للجمال .

وبحسب بعض المصادر فإن تاريخ تسجيل هذه الأغنية كان في سنة 1976 ومع أن الفنان أدى العديد من الألوان الغنائية كالأبتهالات والأناشيد والأغاني التراثية والوطنية إلا أن الجزء الأكبر من أغنياته التي ناهزت المئتان كانت عاطفية تتناول موضوع الحب في أوسع معانيه وبلا ابتذال .

والفنان عادل عبدالمجيد كان قد ولد بمدينة مصراتة عام 1944 وتخرج لاحقا من معهد الموسيقى وعزف بالإضافة إلى العود على آلة التشيلو وشارك طيلة مسيرته الفنية في العديد من المهرجانات والفعاليات الموسيقية وتم تكريمه ببعض المناسبات , ويعد اليوم قامة فنية عالية وصاحب مُنجز كبير تحقق على مدى عقود عديدة ولا يتم الحديث عن الموسيقى والغناء في ليبيا إلا ويتم الإشارة إلية والإشادة بدوره في هذا المجال الخصب لا سيما على مستوى شرق ليبيا الذي كان أبان تألق الفنان وبروز عطاءه مثل باقي مناطق ليبيا , كان ينفض عنه غبار الجهل والوصاية والتخلف ويخطو بثقة نحو المستقبل .

مقالات ذات علاقة

الأخرون وأنا.. هل سيرة ذاتية أم مراجعة ثقافية؟

المشرف العام

صلاح نقاب يحرك حروف العلة

رامز رمضان النويصري

عبد الرحمن امنيصير والبحث عن الذات

المشرف العام

اترك تعليق