كان يَرَاهُ دائماً في مَتْجَرِهِ يَعْمَلُ لَيْلاً ونَهاراً بلا كَلَلٍ أو مَلَل، وحَتَّى في أيامِ العُطْلاتِ الأسْبُوعِيَّةِ- ما عدا الأعيادَ والمُنَاسَبَات الكُبْرىَ – يشتغلُ بنشاطٍ وَهِمَّةٍ لا تُفارِقُ البَشَاشَةُ وَجْهَه.
قالَ لَهُ ذات مَرَّة:
- يا لكَ مِنْ رَجُلٍ نَشِيط !..إنَّك مَدْعاةٌ لإعجابي وتقديري .ونحن نْشكُرُ اللهَ لأنَّ رَجُلاً فَاضِلاً مِثْلَك يقيمُ وَيَعْمَلُ في الحَيّ الذي نَسْكُنُ فيه .أَكْثَرَ اللهُ أَمْثالَك.
فأجابَهُ التَّاجِرُ بإنْشِرَاح :
- إنَّنِي أَسْعَى في سَبِيْلِ الرِّزقِ، وإنْ لم يَسْعَ الإنسانُ في سبيلِ رِزْقِهِ فكيفَ يَكُونُ الحال !؟ وفي نَظَرِي تتراءى المسألةُ واضِحَةً ، فقد خَلَقَ اللهُ بني آدَمَ لِيَعْمَلُوا ويَجْتَهِدُوا وَيَكِدُّوا .وَلِهَذا أشْعُرُ بالسَّعَادَةِ في عَمَلي ولا أَشْعُرُ في أيَّما حالٍ بالقُنُوطِ ..أسْتَغْفِرُ الله.
فقالَ صديقُهُ وهو يَنْظُرُ بِمَوَدَّة:
- أنتَ رَجُلٌ مُبَارَكْ .
فَعَادَ التّاجرُ إلى الحَدِيثِ قائلاً :
- تَعْرِفُ أَنِّي لم أُنِّي لم أُتِمْ تعليمي الثّانوي ..فأنا لم أَحْظَ بقِسْطٍ وَافِرٍ مِنَ التَّعليمِ ولَكِنَّ الحياةُ نَفْسُها مَدْرَسَةً ، وقد جَعَلَنِي وَالِدِي أَحِبُّ التِّجارَةَ وَعَلَّمَنِي كَيْفَ يَكُونُ التَّاجرُ تَاجِرَاً حَقِيْقِيّاً ، وكان أبي في ذلك الوقتِ رَحَمَهُ الله ..
فقالَ صَدِيقُهُ بِصَوْتٍ خَفِيض:
- رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه.
قال التَّاجِرُ مُواصِلاً كَلامَه:
- بَلَغَ مِنَ العُمْرِ أقْصَاه – والأَعْمارُ بِيَدِ الله – ولم يَكُنْ خَافِيَاً عَلَيَّ أو عَلَى وَالِدَتِي أنَّه لا يَسْتَطِيعُ وَضْعَ المَتْجَرَ على كاهِلِهِ بِحُكْمِ السِّنِ حَتَّى لَوْ لم يَقُلْ لنا ذلك ولكنَّنَا كُنّا نُلاحِظُ أنَّ بَذْلَ أَقَلَ مَجْهودٍ يَجْعَلُهُ في حالَةٍ مُؤثِّرَةٍ مِنَ التَّعَب. لم يُبَاغِثْهُ المَرَضُ والحمدُ لله، ولكنْ للكُهولَةِ والشَّيْخُوْخَةِ مُقتضياتٌ وأحكام . ومَعَ ذلك كان يَنْصَحُنِي بِمُواصَلَةِ تعليمي ويقولُ لي : أُرِيدُ أنْ أَتْرُكَ ورائي رَجُلاً مُتَعَلِّماً، ويُمْكِنُكَ يا وَلَدي أنْ تَفْتَحَ المَتْجَرَ في الأوقاتِ التي تَسْنَحُ لكَ مُسْتَقْبَلاً دُوْنَ أنْ يُعَرْقِلَ ذلك مُدَاوَمَتَكَ النِّظَامِيَّةَ عَلَى التَّعَلُّم. وقد كان تَعْرِيْفِي لَكَ بالتِّجارَةِ والبُضاعَةِ وكَيْفيَة البَيْعِ والشِّرَاءِ نَقْلاً للخِبْرَةِ لا أكْثَر.
فقالَ صَدِيقُ التَّاجِر:
- قُلْتُ لك إنِّي أَحْبَبْتُ التِّجارَةَ والسَّعْيَ في سبيلِ الرِّزْقِ، ولستُ، والحَمدُ للهِ، جاهِلاً، وَلَسْتُ، في ذاتِ الوقتِ ثَرِيّاً فثَرْوَتي الطَّائلة – هي مَحَبَّتيِ لِعَمَلِي – هي الإجتهادُ الشَّرِيف. أَرَأَيْتَ يا صَاحِبِي أنَّ الرِّزْقَ والصَّبْرَ هُما مُفْتَاحُ الفَرَج. وسَوْفَ يُحَقِّقُ أبنائي أُمْنَيَةَ أبي التي نَصَحَنِي بها .وعلى أيّ حالٍ فأنا أقرأُ الجرائدَ كلَّ يومٍ وأَحْفَظُ مِنْ أي الذِّكْرِ الحَكِيم بَعْضَ الآياتِ مِنَ السُّوَر. وتلك الآياتُ أُرَدِّدُهَا في صَلاتِي. يقولُ سُبْحَانَهُ في تنزيلٍ مِنْ عزيزٍ حَكِيم “ولقد كَرَّمْنَا بني آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ في البَّرِ والبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبات وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلا”.
فقالَ صَدِيقُ التّاجِر:
- صَدَقَ اللهُ العَظِيم.
ثُمَّ شَرَعَ يَشْتَري لَوازِمَ البيتِ حِيْن وقفَ أبناؤه خَلْفَه فأخرجَ مَحْفَظَةَ نُقُودِهِ بعدما كَدَّسَ أمَامَهُ صاحبُ المَتْجِرِ اللَّوازِمَ المَكْتُوبَةَ عَلَى وَرَقَةٍ صَغِيرَةٍ وبدأ الأولادُ الصِّغارُ في حَمْلِ أكْيَاسَ اللَّوازِم.
- حَفَظَهُمْ الله .
وكان صَدِيقُ التَّاجِر يُفَكِّرُ في المكانِ الذي لا يَعْدُو كَوْنَهُ تجويفاً في الحائطِ وقال :
- أُرِيدُ أنْ لا آخذَ مِنْ وَقْتِكَ أَكْثَر مِمّا أَخَذْت، وبَارَكَ اللهُ فيكَ وفي تِجارَتِكَ، فالظروفُ الآن- بَعْدَ الإستقلالِ بخمسِ سَنَوات – مُنَاسِبَةٌ لنجاحِ التِّجارَةِ ، فَعَصْرُنَا هو عَصْرُ الإسْتِثْمارِ مَهْما – كانت بدايَتُهُ ضَئِيلَةً – لأنَّ أمَامَهُ آفاقُ الكَسْبِ والرَّخَاء.
________________
نشر بموقع الأيام