حوارات

منصور بوشناف: القبيلة بكل أسف ما زالت فيروساً قاتلاً في كياننا الهش

حاوره: عبدالسلام الفقهي

الكاتب الصحفي عبدالسلام الفقهي يحاور الكاتب والناقد منصور أبوشناف
الكاتب الصحفي عبدالسلام الفقهي يحاور الكاتب والناقد منصور أبوشناف

قدم النص السردي بشكل عام أفق وتصورات الكاتب لأفكاره ووجهة نظره في الحياة والمجتمع، ويدخل مع هذه العلاقة في سلسلة من التأثير والتأثر، عبر هضم وإعادة بث في صياغات نثرية متعددة، تستجلي أسئلة كيانها وعوالمه الدفينة، وربما تشكل الهوية مرتكزاً رئيسياً في هذه المعادلة باعتبارها الفسيفساء الجامع لكل هذه الأبعاد، ولفهم أكثر يقترب من مفازاتها كان الحوار مع الكاتب والناقد منصور بوشناف الذي صدرت له مؤخراً رواية «الكلب الذهبي» عن دارالفرجاني، وهي الثانية بعد روايته الأولى «سراب الليل أوالعلكة»، اللتان تتشابكان مع الهوية والجغرافيا والتاريخ.

رواية «الكلب الذهبي» توصف مرحلة ما قبل العلكة، هل يمكن اعتبارها الجزء الأول للسراب.. وأي منهما خرج من رحم الآخر؟

رغم أن «العلكة» كتبت قبل «الكلب الذهبي» إلا أن الأخيرة تتناول مرحلة ما قبل «عشرية العلكة» و«عقد الثمانينات»، فهي أي «الكلب الذهبي» تعود لسرد سردية تكوين الكيان الليبي الحديث ومرحلة ما بعد الاستعمار، ومطامح هذا الكيان في التأسيس والتحديث والتغير، أعني مشروع النهضة الخاص بنا وما شاب ذلك المشروع من شوائب وما اعترضه من عراقيل اقتصادية وثقافية واجتماعية، في الكلب الذهبي تتصارع سرديتان «المدينة الموروثة من الاستعمار، التي تمثل النهضة بمعايير أوروبية» و«التخوم أو الحواف والريف والبادية، التي تحمل كل الخصائص المحلية، الضاربة في جذور التاريخ»

«الكلب الذهبي» فصل من صراع السرديتين «المدينة الهشة الهوية» و«التخوم المثقلة بهويات قاتلة وقتيلة» إنها فصل من فصول الصراع بين «الحسناء» و«الغزالة» المتوسط والصحراء الكبرى، ولا تبدوالنهضة والتحديث إلا هدنة قصيرة بينهما.. أما «العلكة» وتبدو حقاً الجزء الثاني فليست إلا التسمر والجمود ولوك الفراغ وبدايات تفسخ وتحلل مشروع صورة الكيان ما بعد الاستعمار.

تبدو المسافة بين رواية حمار أبوليوس المشار إليها في الرواية و«الكلب الذهبي» فلكية، إلا أن كل منهما ينشد عالم المثل ويفشل.. هل كان التحول طريقة خاطئة للخلاص، أم أننا مجبولون على عبور هذا الجسر المؤلم، أنا هنا أتحدث عن رؤية إنسانية عامة وكذا الواقع الليبي المرموز في الرواية؟

الروايتان كما أراهما الآن لا تنشدان عالم المثل، بل هما مرثية «للكيان المتخيل» ما بعد الاستعمار، الهوية «القاتلة والقتيلة» وقفة على أطلال «مشروع النهضة والتحديث».

الهوية كانت صراعاً بين أوروبية مغادرة، ومحلية وافدة من خارج المدينة؛ لتصبح مع وقع التحولات السياسية خلطة من المتناقضات، موجودة في ذات الدائرة ومنفصلة عن بعضها البعض، أين كانت بدايات الخلل قبل منعطف 69 19 أم بعده؟

الهوية ليست أيقونة جامدة هي متحولة وحية، تولد وتكبر وتشيخ، ترقص وتندب، تكفر وتؤمن، قد تكون عنقاء وقد تكون «زومبي» والمدينة مثلت مشروع الكيان الحديث رغم هشاشتها، الذي لم يستطع الصمود أمام عواصف القبلي ولا زومبي قرون الظلام والتخلف، المدينة الليبية الحديثة يتنازعها المتوسط والصحراء الكبرى «صراع الغزالة والحسناء» بدل تكاملهما. الخلل لم يبدأ 1969 بل قبله بقرون في «الكلب الذهبي» بدأ منذ لبدة الكبرى وجرمة ولازال مستمراً برايات وآلهة كثيرة.

رواية الكلب الذهبي للكاتب منصور أبوشناف عن دار الفرجاني

يتداخل صوت الراوي بقوة مع شخصية البطل.. هل فرضت «الكلب الذهبي» إيقاعاً خاصاً به. أم أنها رؤية تجريبية أخرى للسرد؟

تداخل الراوي والبطل فرضه تكنيك راوي الأليجوريا أو الأمثولة وهوراوي يغيب ولا يموت. إنه مناقض تماماً لنظرية بارت عن موت المؤلف، فهو يعتمد المشافهة والمسامرة والاستطراد، ربما تكويني المسرحي ونظريات برتولد بريخت لعبت دوراً في كتابتي على هذا النحو.

في النص «أنا كما ترى أحكي ولا أكتب» ص45، وكأنما الكتابة موسومة بعقدة الذنب.. ولكن الحكاية مدينة للكتابة والعكس أيضاً؟

نعم، أحكي ولا أكتب، هذا ميراث الكيان وهو يوفر لي مشاركة القارئ في اللعبة ويكسر الإيهام الأرسطي بالواقع، إنها لعبة تغريب الواقع «حتى يبدو هذا اللاواقع هو الواقع بعينه» كما يقول إرنست فيشر.

روح الحسناء وجسد الغزالة كانا أهم مرموزات الالتقاء بين الصحراء والمدينة.. مع اختفاء الغزالة أرادت انساق أخرى فرض نفسها كطرف ثالث، نحن أمام متوالية من الإزاحات؟

روح الحسناء وجسد الغزالة وأيضاً روح الغزالة وجسد الحسناء، ذلك مفترق الطرق بين فلسفتين للكيان الليبي الحديث. أن يتبنى فلسفة النهضة الحديثة بتفاصيلها الأوروبية ويحافظ على «خيمته» و«عباءته» أو أن يفعل ما فعل الخليج العربي ببناء أنصاب الحداثة وحشوها بثقافة «الخيمة» و«العباءة»، ليبيا وطوال عقودها الماضية تمسكت «بالخيمة والعباءة»، بروح وجسد الغزالة، كان سبتمبر ثورة للغزالة ضد كل ما تمثل الحسناء من إرث أوروبي وحداثة، كان أيضاً ثورة أصولية عروبية إسلامية، لا تختلف في منطلقاتها عن فلسفة الخميني كثيراً، كان اعتزالاً وتمرداً ضد «السنة» وما تمثله من فكر محافظ، وكان سلفياً انتقائياً يريد إلغاء كل جهود المفسرين والفقهاء والعلماء الموروثة بعد وفاة النبي، صل الله عليه وسلم، ويعود إلى القرن الأول للهجرة، كانت سردية إلغاء الآخر بكل إرثه وحرق كتبه وآلاته الموسيقية، كانت محاولة لصياغة الهوية عبر سردية أحادية جامدة رغم الضجيج.

اختفاء الغزالة والحسناء من طرابلس بعد فبراير مثل بالنسبة لي استمراراً وتجذيراً لكيان «الخيمة والعباءة» لذا لا ثالت في الأمر، بل استمرار وتجذير.

الرواية أيضاً تجمع بين خرافة الورفليات وأساطير أكاكوس، وتاريخ هيرودوت، ما أثر هذا المزج في طبيعة وواقع التحولات الحالية.. بمعنى إلى أي مدى نحن أسرى هذه الأبعاد؟

ثمة سردية للكيان الليبي وتحولاته تحاول رواية «الكلب الذهبي» جمع شتاتها وبناء سردية متماسكة منها، ولكن وكما في «العلكة» بناء قصة في ليبيا وسردها أمر شبه مستحيل في ظل القمع الثقافي والسياسي والاجتماعي ولعقود طويلة. إن السارد يناور ويعلق ويناقض نفسه، يتخلص ساخراً ويأساً من آليات وفلسفة الحداثة، لينتج نصاً سائلاً «ما بعد حداثوي» إن صح التوصيف. ونظل والنص أسرى ميراث متناقض وجامد رغم قفزتنا نحو ما بعد الحداثة والتفكيك والسخرية والعبث واللاجدوى.

أنت من أنصار اللهجة الدارجة في المسرح الليبي.. هل يعني ذلك تلييب المسرح الذي لن يكون ليبي الهوية إلا بإدخال اللهجة الليبية؟ وما الذي سيتغير إذا ما كتب الحوار المسرحي باللغة العربية؟

أنا من أنصار «لغة المسرح» بغض النظر إن كانت باللهجة أو بالفصحى، لا أفرق بين العامية والفصحى، أنا أنحاز للغة «المسرح» وهي اللغة «القابلة للتمثيل» بأي لغة كانت، حتى لغة الإشارة، لغة للمسرح.

مسرحية «توقف» تجسيد لعجز الجيوش العربية هناك اقتران بين الهوية والحرية، بعد 2011.. هل لازالت هذه المقاربة موجودة؟

مسرحية «توقف» تناولت عجر العسكر العرب وفاشيتهم رغم عجزهم، ولاتزال بالنسبة لي هذه الرؤية سارية وفاعلة.

نجد الفيلسوف العائد من السوربون في رواية «العلكة» يتخلى عن دوره الحقيقي؟ هنا نموذج المثقف ما قبل الإنترنت، وبعده أصبحت المعركة مختلفة واتسعت المواجهة؟ هل اختفى نموذج مثقف العلكة أم لازال موجوداً؟

في العلكة المثقف العائد من أوروبا وبكل تخصصاته أستاذ الفلسفة والاقتصاد والمسرح والآثار والناشط المدني «نصير البيئة» تخلوا جميعاً عن دورهم التنويري وغرقوا في تفاصيل «اللوك»، ومع النت خرجت أجيال تلوك العنف والعبث، بالطبع ثمة أصوات عرفت عبر النت مستنيرة، هم «حملة مشاعل» وسط هذا الظلام البهيم.

الرواية عكست حالة من الشلل الكامل، وحتى نماذجها، كانوا يبدون مجهزين تماماً ليقوموا بهذا الدور؟ أين محاولة التنوير لماذا سلبت منهم هذه الأحقية؟

بعيداً عن نص «العلكة».. أين محاولة التنوير في الواقع وفي أعمال هؤلاء العائدين في تلك الحقبة؟لا أعتقد أن الرواية سلبتهم شيئاً بل هم من سلبوها القدرة على كتابة سرد متماسك، بدل «اللوك والتأتأة».

رواية العلكة للكاتب منصور أبوشناف.
رواية العلكة للكاتب منصور أبوشناف.

يقود البطل في العلكة محبوبته للمتحف، بينما تشده للحديقة، هنا الصراع بين حالة الوعي وغيابه، نجده عند مختار بينما تستسلم فاطمة للحالة العلكية؟ المرأة في السرد العربي تبدو دائماً مجنياً عليها أو هي الحلقة الأضعف؟

أعتقد أن البطلة في العلكة أقرب إلى الحياة والاندماج، فهي تتمسك بالحديقة بينما يتمسك هو، أي البطل بالمتحف، هي تتحرك بينما هومتسمر. المرأة والجنس والتردد والوعي مسألة تخلف اجتماعي، تظهر في الرواية كأحد أسباب الجمود ولوك الفراغ.

في السرد الليبي قد تظهر الهوية كإشكال من حيث المفهوم.. هل الكاتب الليبي مرتبك في موقفه من هذه المصطلح على صعيد النص، وإذا ما كان هناك موقف أين تتجلى ملامحه.. وكيف يمكن تصنيف نص ما بأنه ليبي من عدمه؟

أي نص وببساطة تامة كتبه ليبي فهو نص ليبي، بغض النظر عن لغته أو بنيته الفنية أو زمن كتابته، الكوني كاتب ليبي ونصه ليبي، هشام مطر ورغم أنه يكتب بالإنجليزية نصه ليبي.

قلت في مقال لك إن التشكيل الليبي نتاج صدمة بالمنجز التشكيلي الأوروبي؟ هل يعني ذلك غياب مرحلة التأصيل؟

نعم كانت بداية الفن الليبي الحديث كلوحة نتيجة للتفاعل مع المنجز الأوروبي التشكيل، ولكن أيضاً كانت محاولات التأصيل للوحة الليبية وللتشكيل الليبي قد بدأت تفرض نفسها عبر استلهام فنون ما قبل التاريخ في ليبيا وأيضاً المنجز الفني للنساجات والناقشين وصناع الفخار.

في رحلتك إلى أكاكوس، نجد الليبيين القدامى في جدارياتهم معنيين بتوثيق حياتهم، بينما يفتقد إنسان العصر هذا الشغف، هل نتحدث هنا عن حالة الوعي، وهل يمكن السؤال هنا عن نقاط التقاطع والاختلاف بين الإنسانين ونحن نتحدث عن فارق 7 آلاف سنة؟

في رحلتي إلى أكاكوس أحسست بأننا لسنا بلا جذور وليبيا ليست صندوق رمل فقط، كانت أولى زياراتي للأكاكوس في تسعينات القرن الماضي وقابلت وحاورت «فبريتسيوموري» مكتشف لوحات ما قبل التاريخ ومكتشف «المومياء الليبية» وهي أقدم مومياء في العالم إلى الآن، ونشرت ملفاً كاملاً عن الأكاكوس في مجلة «لا» ثم ملفاً آخر في «الفصول الأربعة»، كان ذلك منذ تلاثين سنة، وفي «الكلب الذهبي» اعتمدت على لوحات الخصوبة «أيروتك». في تلك اللوحات صور أسلافنا حياتهم اليومية ومحيطهم ثم معتقداتهم، وأعتقد أن الفنان الليبي اليوم يصور أيضاً كأسلافه حياته وآلامه وآماله ومخاوفه بالطبع.

ذكرت في مقال لك بعنوان «القبيلة العميقة» أن القبيلة عادت وبقوة إلى سحب المفهوم المدني للمدينة.. كيف تبدو العلاقة بين القبيلة والهوية؟

بكل آسف القبيلة ابتلعت المدينة، بل إن المدن تحولت إلى قبائل وإن لبس شيوخها ربطات العنق، القبيلة بكل أسف لازالت فيروساً قاتلاً في كياننا الهش.

مقالات ذات علاقة

حسن المغربيّ: الأدب أفضل اختراع للبشرية

المشرف العام

إبراهيم النجمي.. فقيه يكتب لغة الناس

المشرف العام

صالح السنوسي: أقع خارج صخب وأضواء (عصائب) المشهد الثقافي العربي

المشرف العام

اترك تعليق