محمد عكرة النويري
“إنّي أكرهك أيّتها الحبيبة” قالها الرافعي عندما همّ بالرّحيل، فصاغ في جملةٍ واحدةٍ ضروباً من المعاني، وجمع بين المتناقضات، فآلف بين الجفاء والحنين، والبغض والحب، والأنفة والخضوع.. وليس الأنثى في ذلك بمنزلةٍ دون الرّجل بل هي أشد تطرّفاً في طمس مكنون فؤادها والضنّ بإظهار الموافقة والرغبة؛ كبرياءً وعزّةً مختلقة.
وللكبرياء آياتٌ منها الإعراض والتمنّع، ومن آياته قصد المخالفة واختلاق المشاكل والتظاهر بالجفاء.. ومنه ما يكون ظاهراً جليّاً، ومنه ما يكون خفيّاً غامضاً تحوم حوله الشّبه ويحفّه الارتياب، فيحسبه العاشق كبرياء حبيبةٍ وتمنّع عاشقةٍ غلبها الخفر والحياء وماهي كذلك.. ويحسبها زاهدةٌ فيه ساليةٌ عنه والأمر بخلافه.. وهكذا هو، لفظ مشترك يحتمل جميع المعاني وضروبها من الحب القاتل إلى البغض العميق..!!
جمعني الدّهر ليلةً بفتاةٍ أديبةٍ حيِيَّةٍ عذبة الحديث سريعة البديهة متوقّدة الذّهن كانت تضمر الهوى فيما كنتُ أذيعُهُ بعد سنواتٍ من الكتمان..
قلتُ وقد جذبنا الحديث إلى الشّعر والشّعراء: كيف كنتنّ لو لم يخلق الله الشعر على أفواه الرّجال؟!
قالت: كنّا كشجرةٍ ضاقت ذرعاً بتغريد البوم على أغصانها ورجيع الحمامِ على أفنانِها حتّى جاد الغيمُ بوابلٍ فطردهما!
فذهلت من جوابها المفحم وأطرقت مليّاً، ثمّ قلت: وهل نلتم منزلةً فوق البدر وأعلا من الحور وحزتم درر المجد وذروة الفضل إلا بلسان الشعراء، أم تحسبين أنّ جوابك هذا سينال من قدرهم ويحطّ من مقامهم.. فما أنتِ إلّا كمن ينكر الشمس ويجحد البدر!
قالت: بل تدعون مجداً أنتم دونه ولقد أنصفكم القرآن وأبان عن حجمكم وجرمكم، فقال: {والشعراء يتبعهم الغاوون} وهل بعد الغواية من ذمٍّ ونقصٍ؟!
قلت: مهلاً، لا تكوني كأبي نُواسٍ! قالت: وماله؟
قلت: ألم تسمعي قوله عندما دُعي لصلاة الجماعة:
دع المساجد للــعباد تسكنها
وطف بنا حول خمار ليسقينا
ما قال ربك ويل للذين سكروا
ولكنه قال ويل للمصلين
أكملي الآية يا عزيزتي ولا تبتريها كما فعل الشاعر…
قالت: وماذا تصنع بهذه الآية: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} فلو كان في الشعر فضلٌ ومزيّةٌ لما نزّه الربُّ رسولَه منه.
قلت: ليس كل ما لا ينبغي للرسول يكون عيباً لغيره، ولا كل ما جاز للرسول يجوز لسواه.. ألا ترينَ أنّه صلى الله عليه وسلم جاز له تزوج تسعة نساءٍ.. بينما لا ينبغي لي أن أطمع في حسناء غيرك ولا أن أتغزّل في هيفاء سواك..
تهلّل وجهها قليلاً ثم عادت بنظرة حازمة، ولسان حالها يقول: يا لك من شاعرٍ وغدٍ تجيد صقل العبارات ورصف المصائد..
ثمّ قالت: دعنا من الاستدلال على غوايتهم وفساد مذهبهم ودنو منزلتهم بالقرآن فإنّه حمّال أوجهٍ.. وإنّك لتجيد التأويل وتحريف الكلم عن مواضعه.. وليت شعري هل سيتورّع عن التجاسر على معاني القرآن من يشبّب بالعذراء في خدرها…؟!
ألم تسمع ما قاله الشافعي رحمه الله ورضي عنه:
ولولا الشعرُ بالعلماءِ يُزري
لكنتُ اليومَ أشعرُ من لبيدِ.
وإذا كان الشّعر يزري بالعلماء وهم عُلية القوم فهو إذاً حلية السّوقة وزاد الهمل الرّعاع!
عندها ضحكتُ حتى الْتَهَبَ خدّها حنقاً ربّما أو حياءً، وقلتُ: يا عزيزتي مالكِ قد انتقلت من مذهب أبي نواسٍ في بتر النصوص إلى مذهب القرآنيين في اللا موضوعية والتناقض الرهيب في الاستدلال؟
أتستدلّين بشعر الشافعي على أنّ الشّعر للوضعاء لا للشرفاء!
وإنّما قصد الإمام المطّلبي القُرشي أنّ الشعر يزري بصاحبه إذا كان الغرض خسيساً.. كأن يكون تملّقاً لملكٍ أو تزلّفاً لوزيرٍ أو هِجاءً وهُجراً ونحوه من الأغراض الذميمة.. وهل رصف الأبيات ونسق الجمل والعبارات في وصفك ومراسلتك وجعلها سبيلاً لوِصالك؛ يُزري بي ويجعلني في الحضيض؟! كلاّ والله..
عندها أزاحت خصلاتها الّتي كانت تداعب خدّها وأسندت ذقنها بباطن كفّها الأيسر وجعلت تعبث بشفتها السّفلى وترمقني بنظراتٍ فاتنة ظاهرها السّلو وباطنها الوَلَهْ..
قالت: ولكنّكم معشر الشعراء مجبولون على الخيانة والغدر! ولكم في كل يومٍ عشيقةٌ وحبيبةٌ.. لا تصونون عهداً ولا ترومون ودّاً، وإنّما تنشدون الجمال حتّى تقوى به قرائحكم وتنبع به قصائدكم، وهذا ما اعترف به أساطينكم وقرّروه قديماً وحديثاً.. فجعلتم منّا معشر النّساء مطيّة لنزواتكم وسلّما لأغراضكم..
قلت: وهل جنى على هذه الأمة المتخلّفة عن ركب الأمم إلا التعميم ورمي التهم جزافاً والتنقيب على العثرات واصطياد الهفوات.. يا عزيزتي إنّ للشعراء مذاهب وإنّ منهم الوضيع والشريف وما ذكرته لهو قليلُ كدرٍ من كثير طهرٍ و”إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث” وهذه الأنانية واستشراف الغايات الدنيئة ليست حكراً على الشعراء ولا على الرّجال فمن النّساء من لا تعرف للحب معنىً وإنّما همّها المال ثم المال فهي تتنقّل من ميسورٍ إلى غنيٍّ إلى ثريٍّ ومنكنّ من تبغي الجمال وتنشد الوسامة فهي تتنقل من جميلٍ إلى أجمل..
نعم.. إنّ منّا لمن يعبد الجمال فأينما حلّ ارتحل إليه، وله في القصيدة الواحدة ألف حسناءٍ يتغزّل بهنّ.. ومنّا من يملّ المكوث والسكون فلسان حاله كما قال أبو الخطّاب عمر بن أبي ربيعة:
سلامٌ عليها ما أحبّتْ سلامَنا
فإن كرِهتهُ فالسّلامُ على أُخرى.
ومنّا من يفني عمره بالتغزّل في واحدةٍ لا يحيد عنها ولا يروم سواها إلا إن جفته وهجرته فعندها يرحل لغيرها ويصون أيّام ودّها، ولسان حاله كما قال أبو تمام:
نقّل فؤادك حيث شئتَ من الهوى
ما الحبُّ إلّا للحبيبِ الأوّلِ…
ومنّا الموحّد! وهو من أفنى حياته وقضّى شبابه وعَمَرَ فؤاده بحبيبةٍ واحدةٍ مذ كان في المهد وحتّى يضمّه اللحد، فلا يحيد عنها ولا يسلو عن حبّها وإن هجرته أو أذاقته الويلات.. وهذا الصنف هو الأشرف والأرفع منزلةً بيننا، فهم الموحّدون لا يشركون في حبّهم أبداً.. وهم الأشقياء المعذّبون!
وأفحل الشعراء وأعظمهم من هذا الصنف؛ كعنترة، وقيس المجنون، وكثيّر، وابن ذريح، وجميل بثينة، والعباس بن الأحنف، وتوبة بن الحميّر، وذو الرمّة، وغيرهم كثير ممن خلّد الدهر دواوينهم وحفظ لنا وفائهم ونبلهم..
وإنّما كان علوّ كعبهم في الشّعر، وتوقّد قرائحهم، وبلوغ غاية الفصاحة والبلاغة متولّدٌ عن آلامهم وآمالهم وأشواقهم وأحزانهم، وما قاسوه وذاقوه من صنوف الهجر والجفاء، وشهد الوصال والسّناء.. فالشعر كان نتيجةً لا غايةً ومُتنفّساً لا مقصَداً…
قالت: أطلتَ وأسهبتَ..
قلتُ: المقام يقتضي ذلك وآمل أنّك ما أصابك مللٌ ولا ضجر!؟
قالت: بل استحسنت قولك وأعجبني سردك واستصوبتُ رأيك، ولكنّك لم تخبرني من أيّ الفرق أنت!؟ وأيّ مذهبٍ تعتنق!؟
قلت: عجباً! وهل يخفى القمر؟!
قالت: قد يحول عن رؤيته السحاب والقَتَرْ!
قلت: ويحك! فقد مضت سنواتٌ وأعوامٌ وعرف القاصي والداني الخبر!
قالت: دعنا من الإبهام والمراوغة وافصح عن مذهبك أهو مذهب ابن أبي ربيعة أم مجنون ليلى؟
قلت: لست أرتضي عربدة ابن أبي ربيعة وإن كنت أجلّه، ولستُ على طريقة ابن الملوّح وإن كنت أعظّمه، فالجنون بالمحبوب لا يدلّ على صدق المحبّة بقدر ما يدلّ على ضعف النّفس ودنوّ الهمّة وخبال العقل.
قالت: “رجعت حليمة لعادتها القديمة” تأبى إلا أن تكون ثرثاراً تجرّك أودية الكلام حتّى ينسيك آخر الحديث أوّله.!
قلت: لست كذلك ولكنّها حيلةٌ دبّرتُها حتّى يطول مجلسنا وأروي عينايَ منكِ وأستزيد قُرباً إليكِ..
ثمّ تابعتُ الحديث وقد خفضت عينها وتورّد خدّها خَفَراً وحياءً..
…كما أنّي لستُ على مذهب جميل بثينة ولا كثيّر عزّة ولا ذو الرمّة، فإنّهم لا يرون بأساً من ذكر أسماء محبوباتهم وهذا ما لا أرتضيه.. والعاشق النبيل الشّهم هو الضّنين الشحيح باسم محبوبته أن تلوكه الألسن وتردّده مجالس السّمر واللّهو.
هااا أتدرين الآن لأيِّ الفرق أنتمي وأيّ مذاهب الشعراء أنتحي..؟!
قالت: ذاك شأنك! وهي في تمنّعها وادّعاء سلوّها أشدّ افتتاناً وحناناً من البوح بودّها وحبّها..
قلت: أنا على مذهب أستاذنا وإمامنا العباس بن الأحنف، ذاك الشاعر العبّاسي الذي قتله الحبّ وما باح باسم محبوبته ولا أحبّ غيرَها أربعين سنةً..
قالت: أليس هو الذي يتغنّى بمحبوبته “فوز” فأي كتمانٍ تتحدّث عنه، لقد طال حديثك حتّى اختلطت عليك الأمور.
قلت: كلّا، بل كانت فوزاً اسماً مستعاراً كما بيّن ذلك النقّاد والأدباء، فاختلق هذا الاسم حتى يبعد الظنون والشكوك، وحتّى ينزّه محبوبته من أن تذكر في المجالس والنوادي.. اقرئي له هذين البيتين وهو يراسل سيّدته:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا
وفرّق الناس فينا قولَهم فِرَقا
فجاهلٌ قد رمى بالظن غيركم
وصادقٌ ليسَ يدري أنه صدقَ!
وأظهر من ذلك قوله:
فَسَمّيْتُها: فَوْزًا. وَلَو بُحْتُ باسمِها
لَسَمَّيْتُ باسمٍ هائِلِ الذِّكْرِ أَشْنَعِ!
قالت: وهل فعلتَ مثله؟
قلتُ: كلّا، بل أبدلتُ العَلَمَ ضميراً، وإن سلكتُ مسلَكه يوماً فتيقّني أنّه مجازٌ لا حقيقة..
قالت: وما بيّنتُك ودليل صدقك..
قلتُ: فليكن الاسم المستعار من اختيارك..
قالت: أصبتَ الإجابة وأحسنتَ الاختيار..
فأجبتُها: وقبل ذلك العينُ مرآة للقلب، ورجفة الجسم دليلٌ لما يضمره الفؤاد، وتلعثم اللسان آيةٌ على الهوى، وإنّ الأرواح لتتعارف وتتناكر، وإنّ الجوارح والجَنان لمنقادةٌ لها مؤتمرةٌ بأمرها..
قالت: زادني حديثُك العذب ومنطقك الشّهد خبالاً بك وصبابةً، وقد أزف الرحيل فأسمعني أبياتاً أتغنّى بها في الخلَوَاتِ وأجعلها زاداً لليالي الشّوق والبُعاد..
قلت: أما وقد نبذت التمنّع جانباً، وضربت الجفاء عرض الحائط، وأنعمي على متيّمك بالوِصال فإنّي راسمٌ لك قصيدةً وناحتٌ لكِ أُنشودةً بوحي عينيكِ لو سمعها ابن الأحنف لألبسني عمامته، ولقيّدها ابن حزم في الطوق، والأصفهاني في الأغاني، والأندلسي في عقده الفريد…