“الثورة يفجرها مغامر.. ويخوض غمارها ثائر.. ويجني ثمارها جبان”، عبارة قالها الثائر الأرجنتيني ارنستو تشي جيفارا وأحد أهم قادة الثورة الكوبية التي تكللت بالانتصار، وحين قرأت كتاب “المنسيون.. بطولات وآلام” تذكرت هذه العبارات، فالثورة الفلسطينية التي انطلقت في اليوم الأول من عام 1965 م ضمت في صفوفها الشعب الفلسطيني بجميع شرائحه الإجتماعية والطبقية للمطالبة بالحقوق الوطنية المهدورة والأرض المسلوبة، وكان شعارها تحرير فلسطين من نهرها لبحرها، وتحرير الأرض والإنسان، والثورة حتى النصر، وكبرت وثبتت أقدامها بعد هزيمة الأنظمة العربية اثر هزيمة حزيران 1967م، فثار الشعب الفلسطيني بمؤازرة ومشاركة من الشعوب العربية وغير العربية، فتتالت قوافل الشهداء والجرحى والمعاقين والأسرى، وخاض غمار الثورة المقاتلون الشجعان ودافعوا عن الثورة في كل مكان تعرضت فيه لمحاولات الإجهاظ والتدمير، حتى لا يأخذ أحد دورها الريادي، غير مبالين بالموت ولا الأسر وكما قال فيدل كاستروا قائد الثورة الكوبية: “الثورة ليست سريرا مفروشا بالورود.. الثورة صراع حتى الموت بين الماضي والمستقبل” حتى الوصول إلى اتفاقية اوسلو وما تلاها من اتفاقيات وما نشاهده الآن على أرض الواقع، وإن كنت اؤمن أن روح الثورة لن تتوقف وستتجدد دوما حتى الحرية للوطن، فيمكن أن يتربع الأنذال على العروش ولكن حتمية الحق ستشطبهم وتلقيهم في مزبلة التاريخ، فكان هذا الكتاب الذي يبحث عن اولئك الشجعان الذين خاضوا الثورة وكانوا الفدائيون الحقيقيون وما آلت اليه أوضاعهم.
“المنسيون.. بطولات وآلام” إبداع آخر للمناضل والكاتب “محمد يوسف” والذي يعرفه الجميع بأبو العلاء منصور، من إصدارات درا الرعاة في رام الله ودار الجسور في عمَّان، في 296 صفحة من القطع الكبير، ولوحة غلاف معبرة عن المحتوى من تصميم رامي قبج، حيث كان الغلاف الأول يصور شخصين يسيران في طريق مرصوف بالحجارة وظهورهم باتجاه الرائي للصفحة باللون الأسود دلالة على انهم منسيون وغير معروفين، مع خمس صور لأشخاص ممن يتحدث عنهم الكتاب في مساحاته الكبيرة، بينما اللوحة الخلفية للغلاف اقتصرت على مقطع من كلمات المبدع عبد الفتاح القلقيلي وثماني صور من المنسيين، قدم التصدير للكتاب الكاتب والأكاديمي محمد نعيم عرفات بسلاسة وجمال تلاه كلمة شكر من الكاتب للأسرى المحررين الذين أفاضوا عليه بذكرياتهم فكان الكتاب، ولكل من كان له دور بالكتاب بشكل أو آخر، تلاه تعريف بالكتاب من الكاتب وبعض مما قاله: “هذا الكتاب رحلة في الذاكرة والوجدان، ومضات سريعة وقصص مبعثرة عن البطولة والوجع”، لينهي التعريف باعتذار عن الألم الذي يمكن أن يسببه الكتاب لمن يقرأه، بتهذيب معروف عن أبو العلاء منصور الذي رافقته والشهيد خالد الديك والمرحوم كمال ياسين “أبو رامي” وهارون غنيم عتمة المعتقلات في أواسط السبعينات من القرن الماضي لعدة سنوات وبقيت الصداقة تربطنا حتى الآن، وفي بداية الكتاب وتحت عنوان من خزائن القراءة كتب بعض من مشاعر وتجارب لمعتقلين في أنحاء العالم، وتلاها تحت بند الشروق أشعار وعبارات عن السجون والمعاناة، ليليه عنوان “مرافعات” وفيه نماذج مثل ريجيس دوبريه وفليتسيا لانغر وراشيل كوري ووالدة البريطاني هورندل، لينتقل بعد ذلك للكتاب.
منذ النص الأول في الكتاب والذي حمل إسم “الأحلام لا تموت أبدا” كنت اشعر بحجم الألم الذي يعتمل في روح الكاتب أبو العلاء وهو يتحدث عن اولئك الذين خاضوا غمار الثورة في أوجها ولكنه لا يستطيع مساعدتهم، ومنهم من فقد البصر او الذراع أو الساق، ومنهم من جربوا الأسر سنوات طويلة، ولكنهم جميعا الآن على الهامش بدون الحد الادنى من الحقوق، وجميعهم تحت بند متضرر في سجلات مؤسسة الشهداء والأسرى برواتب ضئيلة لا تقيهم العوز، الذي دفع غالبتهم للعمل بأعمال مختلفة لدرء الجوع، ويعيشون على مساعدات عينية محدودة، وسادني الألم فكثير من الاسماء التي وردت عرفتها والتقيتها، وهذا التصنيف “متضرر” كان يستخدم للأسرى والمعتقلين، وبقيت هذه الرواتب بتعديلات محدودة لا تواجه الظروف المعيشية والتضخم الاقتصادي وتردي القيمة الشرائية، وقد استعرض الكاتب وبأسلوب روائي جميل اسماء وتجارب مناضلين ومناضلات، ولكن الجميع وبغض النظر عن المعاناة والتقصير بهم لم يندموا على ما قاموا به، ولم تتزعزع أرواحهم وإيمانهم بالنضال.
في النص التالي “من ارشيف الذكريات” تحدث أبو العلاء عن تجربته النضالية وبكل تواضع بدأ الفصل بالحديث: “خاطبت نفسي وأنا أتهيأ لكتابة هذا الكتاب، من أنا حتى أكتب كتابا عن السجن؟”، وطرح في هذا الفصل مجموعة من التساؤلات الإنسانية حول معاناة الأسرى، فالأسير انسان من لحم ودم ومشاعر وأحاسيس، وليس من فولاذ، وينهي تساؤلاته بالسؤال: “من أي مخزون طاقة ينهل الأسير فينتصر على ألامه وغرائزه، كيف له أن ينحي احتياجاته الفطرية”، مستعرضا العديد من الأسماء لأسرى وأسيرات صمدوا ومنهم ما زالوا صامدين، والبعض ممن اصيبوا بأزمات نفسية ومن أصيبوا بالجنون، ويواصل الحديث عن معاناة أسرى قضوا سنوات طويلة في المعتقلات بعد خروجهم من الأسر معنونا الحديث: “يتألمون بصمت”، وفي الفصل التالي “في سماء الحلم” ينتقل إلى الحديث عن عائلات الأسرى والأسرى الذين زارهم في العديد من البلدات ممن تحرروا فيما سمي صفقة “شاليط” فينقل لنا معاناة الأهالي في فترات اعتقال الأبناء والأزواج والآباء، ومعاناة أسرى خرجوا وأسرى لم يجدوا من يدعم دراسة ابنائهم، فمعظم الأسرى من فقراء الشعب وليسوا من أبناء الذوات الذي تقاسموا المناصب والوظائف العليا، والرواتب التي يستلمونها من مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى لا تزيد عن الفتات.
في نص مؤلم جدا وتحت عنوان: “مئة كرسي متحرك” روى حكايات العديد ممن تعمد الاحتلال اطلاق النار عليهم لتمزيق اطرافهم واصابة بعضهم بالشلل النصفي ومنهم طلبة عائدون من المدارس واطفال اعتقلهم الاحتلال وخرجوا معاقين الحركة بتهمة القاء الحجارة على الاحتلال، ومعاناة الأهل مع الاحتلال ومع ظروف ابنائهم الذين أصبحوا مقعدين، وفي النص الذي يليه وأسماه “العرسة الفئران” تحدث عن الاسيرات وعن أمهات وأخوات الاسيرات اللواتي التقاهن في بيت المحررة عهد التميمي، واستمع لقصص الاسيرات واحلامهن وتضامنهن مع بعضهن في مواجهة الاحتلال ورفع المعنويات، بينما سرد في نص اسماه “الجليلية” حكايات المناضلة زكية شموط وزوجها والتي أسرت وتم توزيع أطفالها على الملاجئ والأديرة، وكانت اول امرأة تلد في السجن وبعد عامين نزعت طفلتها منها هذه الجليلية ابنة قرية سولم والتي افرج عنها وزوجها وابعدا الى الخارج وتوفيت بالجزائر.
في النصوص التالية روى أبو العلاء حكايات عديدة لأسيرات قاتلن بشراسة وأسرن وواجهن عدم الاهتمام حين الخروج من الأسر ومنهن تيريز هلسة وايرينا الأوكرانية الأصل وزهرة قرعوش التي روت حكايات الصمود والأسيرات اللواتي كن معها والأشبال، ونورس التي قضت اربعة عشر عاما في سجن عربي، وتلاها حكاية الأسيرة منى قعدان التي تصلح أن تكون روايتها وحديثها عن حبها وزواجها خلف القضبان ورعايتها للاسيرات الزهرات القاصرات رواية رائعة، وفايزة عاصي التي مثلت الجنون عامين، والمناضلة فريال سمعان حنا سالم والتي تشوهت وفقدت عينها بانفجار عبوة ناسفة كانت تعدها وخليتها، وحين خرجت بعملية تبادل اسرى وتمكنت من السفر للعلاج في فرنسا قالت: “حز في نفسي أنه لم تشارك في استقبالي جهة رسمية فلسطينية رسمية-السفارة مثلا_ وإنني عولجت بتبرعات انسانية كمسيحية فقيرة وليس مناضلة”، وكذلك المناضلة عبير عودة والتي كانت ضحية المجتمع مع اخواتها واخوتها قبل الأسر، وضحية للمجتمع بعد نيلها الحرية والتي روت أسماء عشرات المناضلات اللواتي عرفتهن في الأسر، وتقول: “في داخلي كم ألم هائل من كل شيء، من الاحتلال ومن السلطة والفصائل والمجتمع، كل ذلك على حساب الوطن وآهات المناضلين وذويهم”، وأسيرة سابقة تشتكي من ظلم المجتمع رفضت ان يذكر اسمها بالكتاب فهي كما قالت: “ما زلت عالقة في شباك الظلم، لم أتحرر بعد”، وحكاية أحلام ونزار التميمي والحب من خلف القضبان وخلال الأسر، حتى تكلل الحب بالحرية والزواج رغم الابعاد عن الوطن ورغم اختلاف الإنتماء الفصائلي، وحكايتهما أصلح ما تكون لمسلسل أو فيلم، وذكرتني أنني أيضا عقدت قراني بالوكالة من خلف القضبان وبعد عامين خرجت من السجن ورأيت زوجتي لأول مرة يوم أحد وتزوجنا الجمعة، وتحدث الكاتب عن تجربة الاسيرة مريم ترابين وحكاية الأسيرة د.وداد البرغوثي وزوجها عبد الكريم وابنائهما.
في النصوص التالية يتحدث ابو العلاء عن العديد من الأسرى الرجال، في نص طويل عنونه: “القفص” سرد فيه حكايات عدد كبير من الأسرى الذين التقاهم بعد خروجهم من الأسر كما رووها، حيث زار البعض في بيوتهم والبعض التقاهم في مناسبات مختلفة، ليعود في نص “ملائكة العظمة” للحديث عن الأسيرات، وفي نص “الرواد” تحدث عن كبار السن من المناضلين القدامى وقد بلغوا الشيخوخة، ومنهم مناضلون قضوا سنوات طويلة من اعمارهم في سجون عربية، وغالبيتهم ممن تعرضوا للإعتقال سنوات طويلة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي لعضويتهم بالأحزاب المختلفة قبل هزيمة حزيران 1967م، ومناضلون قضوا معظم عمرهم في سجون الاحتلال وتحدثوا عن تجربتهم وعن السجون والاشكالات التي كانت تحصل فيها بين أطراف متعددة، لعبت فيها الفصائلية دورا كبيرا اضافة للإرتدادات الفكرية التي كان لها دور كبير في الانشقاقات وفشل بعض الإضرابات وإضعاف دور الحركة الأسيرة، ومعظم من تحدث اليهم الكاتب كانوا يلقون اللوم على المفاوض الفلسطيني أثناء مفاوضات اوسلو لتجاوزهم قضية الأسرى والإفراج عنهم، ويسجلون مواقف على السلطة والأجهزة الأمنية أيضا.
في النصوص الاخيرة من الكتاب “النضج” تحدث عن مرحلة ما بين 1975 و1985م موردا تجارب مهمة للأسرى ومنها ما تصلح أن تكون دروسا للمناضلين كي يستفيدوا منها، وأشار بعض الاسرى للاشكالات التي حصلت مع انشقاق فتح في الخارج، وعن ظاهرة التعصب الديني التي حصلت بالسجون، وعن المشبوهين بالعمالة لإدارات السجون، وعن معاناة للأسرى بداخل السجن وخارجه ليكمل لمرحلة جديدة تحت عنوان “جنرالات الحجارة” من 1985 الى 1993م، فهذه اضافت اعدادا كبيرة من الأسرى بمستويات علم مختلفة شكلت قفزة نوعية على واقع السجون والأسرى السابقين، وفي النص الأخير “مصنع المقاومة” يتحدث عن الفتية والأطفال الذي يأسرون ويزج بهم بالسجون لكسر شوكتهم فيخرج غالبيتهم أبطال ومقاومون بوعي، لينهي الكتاب برسالة من الأسير أبو علي حامد موجهة له، يليها آخر ما ورد بالكتاب تحت عنوان: قالوا بالكتاب، وهي شهادات لبعض من قرأوا الكتاب من المناضلين والأسرى، ولعل ابلغها ما قاله الأسير المحرر محمد البيروني: “الكتاب يصف لنا في كثير من مقاطعه فرح البدايات.. لكنه في كثير من الحالات وللأسف الشديد يوصلنا إلى قسوة النهايات، ليست النهايات المرتبطة بألم القيد، بل قسوة المصير بعد الحرية.
واسجل هنا مرة أخرى كل تقدير لهذا الجهد الذي استمر سنوات، لم يكل فيه الكاتب عن التجوال بين قرى ومدن وبلدات الوطن وخارج الوطن للقاء الاسرى المحررين وأهاليهم، وحضور المناسبات ليستمع من الأسرى حكاياتهم ومعاناتهم وتجربتهم النضالية، وأسجل تقدير للصديق نيقولا ابراهيم “ابو ابراهيم” صاحب دار الرعاة والجسور على تبنيه هذا العمل وإصدراه، والكتاب والذي صنف تحت تصنيف السيرة الذاتية، كان يمكن لو لم يهدف الكاتب للتوثيق المروي أن يكون رواية توثيقية ملحمية، ومع هذا فقد تمت صياغته بأسلوب أدبي جميل أقرب للسرد الروائي، وإن كان سيلحظ القارئ بعضا من التكرار، لكن هذا ناتج عن أحاديث أسرى عشوا التجربة بنفس الفترات، والكتاب لم يخل من بعض الأخطاء الطباعية لكنها قليلة نسبة لحجم الكتاب الضخم، لكنه فعلا كتاب يثير الألم كما اشار الكاتب في المقدمة.
الكاتب لجأ لايراد فقرات عديدة من كتب قرأها تتحدث عن السجون والمعتقلات وتجربتها، فأضاف الهم الانساني العام للهم الوطني الخاص، والتقى مناضلين عرب من خارج فلسطين فأضاف البعد القومي الذي بدأنا نفتقده، وكان موفقا باستخدام العناوين لكل نص أو فصل، فكانت هذه العناوين تحمل دلالات عما سيقرأ بعده، وفي نفس الوقت ابتعد عن الفصائلية المقيتة فلم يحصر الكتاب بأبناء حركة فتح وهو ابنها، فالنضال ليس ملكا لفصيل معين.
وحقيقة أنهيت الكتاب ولجمني الصمت على كل ما قرأته وخاصة انني عشت التجربة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي في المعتقلات لعدة سنوات وبعض التجارب البسيطة في اجتياح الاحتلال مدينة رام الله عام 2002م، ويبقى السؤال من سيقرأ الكتاب غير الاسرى ومن عانوا ظلمات السجون ومرارة الأسر، وهل سيقرأ الكتاب أصحاب القرار الآن؟ وهل لو قرأوه سيفكروا ولو للحظة لرفع الظلم الذي وقع على اولئك المنسيين، أم سيبقى جهد الكاتب الوفي للأسرى والمناضلين محاولة للدق على جدران الخزان لعل أحد يسمع؟
“جيوس 10/11/2021”