أسامة بن هامل
في أثناء متابعتي لقاء للدكتور علي جمعة على قناة العربية، أول من أمس، دافع فيها عن آراء أبداها العام الماضي ملخصها أن الله لم يخلقنا ليعاقبنا بل رحمته تسع حتى غير المسلمين، وأثارت وقتها تلك الآراء جدلا واعتراضا واسعين، تذكرت حدثا مضى عليه 14 عاما، حين كنتُ أنسق في ديسمبر 2009م لقاء طلبته قناة الجزيرة مع الشيخ الليبي الراحل، أحمد القطعاني حول ذات الآراء التي دعا فيها إلى تصحيح مفاهيم حول علاقة العبد بربه، بأن تكون قائمة على الحب المتبادل والوعد بدلا من الخوف والترهيب والوعيد.
كان السبب في الجدل حول آراء الشيخ القطعاني وقتها أن بعض أصحاب الأغراض الخبيثة شوهوها بشكل ممنهج واختزلوها في جدلٍ مفتعل للقول بأنه ينكر العذاب في الآخرة، بينما كان مضمون كلامه يهدف إلى ضرورة استيعاب فلسفة العقاب والقدر في الإسلام من منطلق منهجه في الدعوة الذي سمّاه «منهج الحب والجمال»، والتنبيه على أن ثقافة الخوف التي عززها الخطاب الديني الجامد سبب في توقف تطور وتحرر وإبداع المجتمع الإسلامي، خاصة وأن الأنظمة السياسية تحتاج شرعنة الخوف والرعب في قلوب مواطنيها لتضمن بقاءها.
تذكرت وأنا أشاهد د. علي جمعة، ما قاله لي شيخنا القطعاني وقتها، وأثبته أيضا في موسوعته التي جاء فيها: «إن هذه الأفكار والآراء هي التي سيستقر عليها مسلم القرن الواحد والعشرين لأنها تخاطب قلبه فتؤنسه وعقله فتقنعه وتتفق مع فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها وتتكفل بتكامله مع تكنولوجيا وحضارة وقيم عصره وتقطع عنه ألسنة من يحاولون التطاول على دينه ونبيه وآله من أعداء هذه الأمة وما أكثرهم». قلت هذا بعد أن سمعت د. علي جمعة يكرر ذات كلام الشيخ القطعاني بحذافيره بأدلته وشواهده وشكله ومضمونه.
طيلة ملازمتي للشيخ القطعاني، على مدى 26 سنة، كنت شاهدا على جهده في نشر ما يؤمن به بكل الوسائل ما يؤمن مؤسسا لخطاب بــ «منهج الجمال والحب»، الذي يركز على ترغيب الناس في الإيمان عبر إبراز جمال الدين وسموّ مقاصده، بدلا من ترهيبهم بوعيد النار.
يقول في أحد كتبه: «نحن نجبر الخواطر ولا نكسرها، نقدم الشكر قبل الصبر، والرجاء قبل الخوف»، وهذه الرؤية لم تكن مجرد رأي، بل نابع من فهم عميق للنصوص الشرعية، وإعادة قراءتها بعقل منفتح على روح العصر.
من تلك الآراء التي عاصرت الجدل والاعتراض حولها، رأيه في «عذاب القبر»، الذي نفاه، منبها إلى أن القبر «روضة من رياض الجنة» أيضا وليس مكانا للعذاب. ربما قال بهذا الرأي غيره من علماء الإسلام، لكن ما انفرد به رأي صدر من محض الجمال والحب، وأقصد مقاله الشهير الذي عنوانه «إنها فرصة أخرى» والذي قال فيه «بحياة واعية مدركة في القبور أرقى من سابقتها»، وإنها المقصودة في قوله تعالى «أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ»، وهي «النشأة الأخرى» في قوله تعالى «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ، مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ، وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى»، يهب فيها رب العالمين لعباده للمسرفين على أنفسهم في دار الدنيا فرصة أخرى للتكفير عن خطاياهم. وهذا الرأي فهم عميق جدا يؤسس لخطاب حب وحمال من مطلق رحمة الله وعدالته.
كذلك، ميّز الشيخ القطعاني بين القضاء و”القدر، فالقضاء كما يقول هو المبرم من عند الله لا رد له، أما القدر فهو ما يصنعه الإنسان باختياره، وبالتالي فهو من يصنع أقداره ليكون مسؤولا عن تحسين ظروفه، وليس مُجبرا على الاستسلام للفقر أو التخلف باسم دين الله. كان يؤسس بين مريديه خطابا يقابل خطاب الانهزامية الذي يبرر الواقع المرير بالرضا بالقدر، ولم يتوقف عند حدود تصحيح المفاهيم في علاقة العبد بربه، بل امتدت جهوده للانتصار لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عنه أوهام تعرضه للسحر، المناقض لعصمته صلى الله عليه وسلم، ونبه إلى مخاطر مفاهيم السحر وكيف وظفها الحذاق للاستغلال بلاءات الناس بادعاء قدرتهم على علاجها. وأكد على الحاجة الماسة لمراجعة منهجية في قبول النصوص، وعدم التسليم المطلق بما ورد في الصحاح، وبين منهجه في تفنيده لحديث “الفرقة الناجية” الذي قسم الأمة إلى 73 فرقة، ووصفه بـ«الفيروس» الذي زرع الانقسام عبر التاريخ.
كانت الأمثلة التي يختارها مجالا لتطبيق منهجيته في نقص النصوص التراثية دقيقة وتنم عن عمق وعي واستنارة بصيرة، فانتقد نص «العشرة المبشرين بالجنة»، ليس فقط لما اعترى طرقه واسناده من علل، بل لتحيزه واصطباغه بثقافة من وضعه، فتجاهل هذا النص نساء عظيمات فضليات كخديجة وفاطمة لا يقل قدرهن وعظم دورهن عن أدوار الصحابة الكرام العظام الذين اختزن النص فيهم بشارته صلى الله عليه وسلم ، وليس هذا النقد هدم للثوابت، بل يدشن لدعوته التي ما توقف عن تكرارها بضرورة تنقية التراث من الشوائب التي علقت به عبر القرون.
أذكر جيدا، كيف صاحب الجدل والرد والرفض مقالاته الأخرى التي دعا فيها الى معاودة النظر في نصوص تمس مؤسسات الاقتصاد وحياة الناس فتضيق عليهم معاشهم، كدعوته بضرورة الالتزام التزاما تاما بالأصل القرآني في قضية الوصية والمواريث، ونبذ ما سواه من مرويات ناقش مسائلها وقضاياها في عديد المناسبات والمحاضرات، وأكد أن هذا الالتزام بالأصل القرآني في هذه القضية يحمي بنى المؤسسات الاقتصادية الخاصة ويحافظ عليها من التفتت لتستمر متماسكة، وأنه يساهم برأيه هذا في الدفع بالقطاع الخاص لإثراء اقتصاديات العالم الإسلامي. وفي سياق قريب دعا لمراجعة الفتاوى التي تعيش التطور الاقتصادي، مثل الفتاوى بشأن المعاملات المصرفية المعاصرة التي رأى أنها لا تدخل في مفهوم الربا المحرم.
هذه الآراء لم تكن اجتهادات عابرة، بل هي نتاج رؤية متكاملة لثقافة إسلامية شاملة، وهو الشعار الذي وضعه لمجلته، مجلة الأسوة الحسنة، التي قام على إصدارها شهريا وعلى مدى 14 عاما، تماما بعدد السنوات التي مرت على حادثة جدل عذاب الآخرة عام 2009م وأعاد اليوم علماء الإسلام ما قاله رحمه الله حرفيا.
وعلى الرغم من رحيل الشيخ القطعاني، فإن كتبه مثل «الحب القذر» و«إسلام للبيع» و«موسوعة القطعاني» تظل مراجع غنية بأفكاره الإصلاحية، والتي سبق بها زمانه إن مقالات «باروكة الثعبان الأقرع» و«فايروس 73» و«قضاء وقدر» وغيرها، تمثل جهودا كبيرة لتفكيك الخطاب الديني التقليدي وإعادة بنائه على أسس عقلانية تتوافق مع إنسانية الإنسان وكرامته.
اليوم، حين أستعيد هذه الآراء المستنيرة، بات جليا أن ما بدأه الشيخ القطعاني لم يكن مجرد جدلٍ عابر، بل تأسيس لمسارٍ تجديدي في الفكر الإسلامي، يقوم على مصالحة الدين مع الحياة، وربط الإيمان بالجمال، والعبادة بالحب. فكما كان يقول “خلقنا الله لِنعبده حبا وعشقا، لا خوفا وطمعا فقط”، ويوجه خطابه لعباد ربهم “خلقكم لتعيشوا لا لتستعدوا للموت”، هذه العبارة التي لخصت فلسفته، ربما تكون الإجابة الحقيقية على سؤال: كيف يمكن لمسلم القرن الحادي والعشرين أن يعيش إيمانه دون أن يفقد روحه في زمنِ الاضطرابات؟!
بوابة الوسط | 27 فبراير 2025