قراءة في قصة ” بانو – دراما ” للقاص محمد زيدان
دكتور سامي البدري (روائي وناقد – العراق)
بقدر ما يصدق القول إن (الكتاب يتنازعون نصا واحدا)، يصدق القول إن كنايات القصة تتعدد (لأن القصة كناية) بعدد رواتها؛ وخاصة إذا ما انبجست هذه القصة من ثقب صمت مكموم.
وإذ يروي لنا القاص (محمد زيدان) من لجاجة (صمته) فإنه يجادل انتظاراتنا على استيفاءاتها ويدفع بها إلى حافة صمتها عبر (بانو – دراما) يماحك بها شاشة صمتنا بسلسة من لقطات الشيء اليومي، من تلك التي لا تستوقفنا كثيرا، ولكنها لا تكل عن طلب استحقاقاتها في عرض (كناياتها).
في إشارة الهامش التي يلحقها القاص، محمد زيدان، بعنوان قصته، يؤشر لنا استحقاقات تلك الكنايات بقوله: (الدراما الصاعدة بحق دراما عبر نوعية، أكثر شفافية وتجريدا وأدوم حداثة وإبهارا؛ تعرض على شاشات بحجم الحدث، منصوبة سلفا في الشوارع الخلفية للعالم؛ جمهورها هم الممثلون أنفسهم، ولحظة وقوعها هي لحظة انكتابها؛ غير قابلة للنسخ ولا الإعادة، ولا تكون الكتابة عنها – فيما هي تحدث بكامل واقعيتها على الأرض – كتابة واقعية بأي حال)، وهذا ما يؤشر لنا أن ما تعرضه لنا شاشات شوارع العالم الخلفية، هو حجم الصمت المكموم والمكبوت في الصدور، والمطالب باستحقاق انفجاره ومساحة صرخته المصادرة في المجتمعات شبه البشرية، والتي مازالت تصر على (السكن) على أطراف الحضارة ورؤية العالم والحياة عبر عين واحدة مصابة بنعاس مزمن يمنعها من رؤية أصحابها على تلك الشاشات، رغم أنهم يؤدون أدوار البطولة في ما يعرض عليها من دراما!
شاشات عرض (بانو – دراما)، تعرض لنا ثلاث مشاهد درامية من صميم حياة (المجتمعات شبه البشرية) اليومية، التي مازالت لا تجد بديلا عن الصحراء مكانا لحفر أحلامها على ضفاف رمالها، رغم صفرة تلك الرمال الفاقعة، وعدم تزيين النجوم لسمائها بسبب عتمة غبار أفقها الذي لا يهدأ!
المشاهد الثلاثة تعرض للرغبات الثلاث التي تحكم ثقافة وثقافة أحلام وسبل (حياة) أفراد تلك المجتمعات: المال، الجنس، السلطة!، ليس لأن تلك المجتمعات مازالت تعيش مرحلة طفولتها الحضارية، بل لأنها مازالت مصرة على رؤية سماء صحرائها عبر ثقوب العتمة التي تنتظر حدوثها ذات صفاء قدري!
ورغم أن المشاهد التي تعرضها (بانو – دراما) محمد زيدان، تعرض قصصها لحوادث تحدث وتشكل جانبا من حياة المجتمعات البشرية، إلا أنها، وللسبب الإشكالي الذي ذكرنا، تحدث بطريقة (شبه بشرية) عندما تحدث في مسار حياة وطرق تفكير تلك المجتمعات – شبه البشرية – التي مازالت مصرة على تعتيق كل رؤاها في وحل الصحراء غير المرئي، ولا لسبب ظاهر غير امتلاكها لـ (قدرات عالية على تدمير الذات) ولأسباب مازال تحديدها يمثل – بحد ذاته – إشكالية ثقافية مضافة وعصية على الفهم والتقبل كإشكالية من الأساس!
هذه ليست الحكاية بل ثقب الصمت الذي يجب أن تنسرب عبره، فيما لو وهنت قدرة تلك المجتمعات العجيبة، على تدمير ذاتها ولو لوقت قصير يسمح لها برؤية سماكة العتمة التي تحجب عنها سمائها، بعيونها الخاصة، ومد أحد أصابعها لاختراق إحدى نقاط ضعف تلك العتمة غير المتراصفة!
أما الحكاية فهي أكبر تروس الإشكالية الثقافية التي تعيشها هذه المجتمعات (شبه البشرية) والمتمثلة في قدرتها العجيبة وإصرارها منقطع النظير على تدمير الذات بتصميم يفوق تصميم سمك السلمون على بلوغ هدف هجرة موسم تكاثره!
مازلنا نقف في شوارع العالم الخلفية وشاشات العرض تكبر وتصغر على حجم الحدث المعروض… وهي ستظل تكبر وتصغر وتستطيل وتتقعر حتى لحظة أن تفاجئ كل إمبراطور من تلك المجتمعات ألوان ثيابه!، وهم يتعددون بتعدد شاشات العرض وعدد الممثلين/الأبطال رغم محدودية دراما الحدث وانحسار أفق تطلعه: (فقد طلقت امرأة زوجها بسبب خلاف بين أمه وأمها… وفي القرية إياها، وعلى مسافة عدة أعوام من تلك الحادثة، هجم ستة أشخاص كبار بكامل أجسادهم على طفلة معاقة واغتصبوها بالتوالي… وفي قرية م القريبة بساعات قليلة من مكان الحدثين السابقين، نقل ابن الحاكم العسكري العام (سيد أباطرة المشهد العام) نقل حياته بالكامل إلى تلك القرية….)… وغني عن القول إن ابن الحاكم ستكون أول أهداف سلطته هو إشباع رغباته الشاذة، والذي يقضي عليه قدر السلطة أن يسدر فيها حتى آخر منعطفاتها المؤدية إلى شاشات عرض شوارع العالم الخلفية، ليس لأنه مستقرها الطبيعي، بل لأنه جزء من هوية ونظام أشياء تلك الشعوب (شبه البشرية)!
المشاهد الثلاث التي تعرضها (بانو – دراما) محمد زيدان تختصر لنا صورة عن الكيفية التي تصر بها الشعوب شبه البشرية على تدمير ذاتها؛ وأيضا صورة عن أسباب إصرار تلك الشعوب على تدمير الذات -وهذا هو أهم أهداف وأغراض القصة القصيرة من الناحية الفنية: الوقوف على ساق واحدة – بحيرة – في أخطر مراحل عبور النهر على جذع الشجرة القديم المستخدم كجسر… وفي جزئه الملتوي الذي لا يصلح إلا لتجاوزه تجنبا للسقوط في مياه النهر الجارفة… وهي الإشكالية عينها التي قادت (حمار بوردان) – في الاسطورة القديمة – إلى حتفه بسبب عدم قدرته على الاختيار في أحدى صورها المستعصي على شاشات العرض تجسيدها!
وبهبوط فأس الرجل القصير الناحل على عنق أخته الوحيدة، يقول لنا محمد زيدان، أن الحكاية مازالت تتخلق في حنجرة الصمت بحثا عن شاشات أكثر اتساعا للعرض، رغم حسم ضربة تلك الفأس لواحد من أهم أوجه تمظهر قدرة تلك الشعوب على تدمير الذات.. فهل هذه القدرة أحد أقدار هذه الشعوب، غير القابلة للرد، أم هي إشكاليتها الثقافية التي لا تملك الجرأة على النظر إليها من أحد ثقوب صمتها التي يعج بها جسد حكايتها المهلهل؟!