(فصل من كتاب: علم الدراسات الليبية LIBYOLOGY)*
3. الكتابة العصيّة
لم يؤد النجاح في معادلة الحروف الليبية القديم بما يماثلها من قيم صوتية، إلى فك شفرة اللغة وقراءتها بعد. هذا العجز يبدو واضحاً، لسببين اثنين: الأول هو أن جميع الحروف صامتة، والثاني هو اختلاف رسمها من مكان إلى آخر. أما وجود ترجمات لاتينية أو ليبوفينيقية مرفقة في بعض الأحيان فلا يمكن توظيفه إلى أكثر من فهم النصّ الليبي بشكل عام، ذلك أن الذين كتبوا في الأصل كانوا الليبيين أنفسهم، وهم الذين أرفقوا الترجمة بهاتين اللغتين إلى لهجاتهم المختلفة.
1) جميع العلامات تمثّل حروفاً صامتة، وهي من الخصائص الأفروآسيوية الغالبة، ولم يتمكّن الباحثون في الغالب من إدراج ما يتطلّبه نطقها من صوائت أو شبه صوائت، لأنهم لم يتوصّلوا إلى نموذج معياريّ ثابت يستطيعون باستخدامه «إسالة» صُمُوتة الحروف.
2) اختلاف رسم الحروف من منطقة إلى أخرى. وهذا ما يرجّح أنها تعبّر عن أساليب تلفّظٍ محلية مختلفة عن بعضها بعضاً، وأنها في الحالات المتماثلة قد لا تعني بالضرورة القيم الصوتية نفسها. فهي أقرب إذن إلى أن تكون تدويناً يمثّل اللهجات القديمة، لا لغة معيارية واحدة، حتى إذا عددنا تلك اللهجات تنتمي جينالوجياً إلى عائلةً واحدة.
إن الصورة العامة التي يجب أن توضع فيها النقوش الليبية في جينالوجيا اللغة، هي الآتي: النقوش الليبية القديمة تعبّر عن أكثر من لهجة، ولا تمثّل لغة معيارية موحّدة. لقد ابتكر الليبيون القدماء هذه الخطوط المختلفة، أي أن نشأتها كانت في الأصل محليّةً، متأثرةً في الوقت نفسه بما كان سائداً من كتابات.
ثمة ملاحظة مهمة هنا، يمكننا الاستدلال بها في تأكيد هذا الطرح، ففي تحليل نشأة الكتابة الليبية يستعين الباحثون بملاحظة شابو (غانم مثلاً) عن أن معظم النقوش الليبية وُجِدت «في المناطق الشمالية التي تأثرت بالحضارة البونيقية في شمال غربي تونس وشرقي الجزائر، ويتناقص وجود تلك النقوش كلما توغلنا في أملاك الدولة القرطاجية نحو الغرب أو الداخل»، ويضيف أن تلك النقوش: «في الجزائر كانت قد التقطت من الركن الشمالي الشرقي بداية من غرديماو (تونس)، فمنطقة الشافية وبوحجار (الجزائر)، ثم أولاد بشيح، وتمتد جنوباً حتى تبسة، وتعم منطقة الأوراس وسطيف، ويقل عددها كلما اتجهنا غرباً بحيث لا يزيد عددها عن سبعة أو ثمانية نقوش في الغرب الجزائري بأكمله، وتتناثر في المغرب الأفصى حول المستوطنات الفينيقية البونية [الليبوفينيقية]».(11)
لا تدع هذه الملاحظة العمليّة مجالاً للشك في تأثير نظام الكتابة الفينيقي، خلال القرن العاشر ق.م. على ابتكار الكتابة الليبية، لا باقتباس علاماته، فالتماثلات رسماً ولفظاً قليلة (لا تتجاوز ستة وفق قراءة هاليفي)، بل باستعارته أسلوباً حضارياً ينقل مستخدميه من المشافهة إلى الكتابة، وإن هم كرّسوا ذلك لأغراض طقسيّة أو عقيدية محدودة.
ثمة رأي آخر يذهب إلى اقتباس الكتابة الليبية عن الكتابات الصفوية أو الثمودية، ويستند هذا الطرح على تماثلات دقيقة في رسم بعض الحروف، ويبدو رأياً وجيهاً من هذه الناحية، أي بمقارنة أشكال الكتابة، ولكنه يظلّ مجرّد افتراض نظريّ ما لم تؤدي دلائل علمية إلى تحديد أزمنة الهجرة والترحال من (أو إلى) جنوب-غرب الجزيرة العربية، خاصةّ وأنه لا سبيل أمامنا الآن لمقارنة اللغة الليبية القديمة بالصفوية أو الثمودية، أو بغيرهما.
ثمة من يعود، من ناحية أخرى، إلى افتراض أن الكتابة الليبية نشأت في القرن الثالث أو الثاني ق.م(12)، وهو الزمن الذي يؤرّخ به أقدم النقوش. إن كل فرضية إنما هي رهن أدلّتها، ولا شيء ينفي آخر الأمر إمكانية العثور على نقوش أخرى من الكتابة الليبية أقدم عهداً من القرن الثالث ق.م. عندئذ -عندئذ فقط- يمكن ترجيح هذا الرأي المحدود.
أن تكون الكتابة القرطاجية [الليبوفينيقية] واللاتينية وحدهما هما اللتان ترافقان عدداً من النقوش الليبية، فإن ذلك يضمر دلالةً واضحة على تمثّل الصراع الليبوفينيقي-الروماني، وانعكاسه على الحياة في شمال أفريقيا، فحتى مع ابتكار نمط كتابة خاصّ فقد ظلت الكتابتان الليبوفينيقة واللاتينية حاضرتان بقوة.
لقد اكتشف الليبيون في زمن ما (ربما في الألف الأولى ق.م، أو ربما في القرن الثالث ق.م!) أهمية هذا الابتكار (الكتابة)، وطرافةَ أن يُرسم الكلام البشري فيصير مرئياً ويبقى خالداً لا يضيع، فبادروا إلى اصطناع نسختهم الخاصة في أكثر من مكان، ودون أن يُقدموا على الخطوة الأخيرة التي تتطلّبها هذه «الاختراعات»: أن يُوحَّد نمط الكتابة لكي تنتشر ويسهل تداولها، ولكن تلك الخطوة لم تكن ضروريةً كما يبدو، لغياب أهم أسبابها وهو الحاجة إلى تعميم استخدامها بين الأهالي بسبب وجود لغة مسيطرة تفرض كتابتها تلقائياً، الليبوفينيقية أولاً، ثم اللاتينية. إن وجود هاتين اللغتين بنظاميهما المتميزين في التدوين، كان سبباً وراء بطؤ تداول الكتابة الليبية، وأدى إلى تحاتّها تدريجياً، فلم تتطوّر لتصبح نظام كتابة متكاملاً، واقتصر وجودها على تلك النماذج البدائية التي عثرنا عليها تباعاً.
هوامش
10. لكي تكون إعادة بناء اللغة الأمازيغية (الشمالية) عملاً منهجياً متكاملاً، وحتى لا تقع في ضرب من الانتقائية، أو تلجأ إلى التقديرات الظرفيّة أو غير المنهجية، فإن الأصوب هو أن تراعَى فيها سلسلة إجرائية دقيقة تتكون من ثلاث مراحل أساسية: 1) تدوين المعاجم المحليّة، ألفاظاً ودلالات، وهو عمل بالغ الأهمية له أثر إيجابي على الدراسات اللغوية والاثنولوجية. 2) التواضع على نموذج مرجعي قياسي يتم استخلاصه من القبايلية (تاقبايليت) والريفية (تاريفيت) والسوسية أو الشلحية (تشلحيت) (بحكم انتشارها الأكبر). 3) بناء نموذج استظهاريّ extractive يُستخدم لتثبيت التواضعات اللغوية والترجيحات الدلالية الأكثر تردّداً، على أن يشار ضمن ذلك إلى التحولات الفونيطيقية أو الدلالية التي لحقت بالمفردات. إن من شأن هذه الطريقة أن تحافظ على مجمل هذا التراث الإنساني الخالد، دون تعريضه للاندثار. يتعلّق الأمر كذلك باللغة التبويّة بفرعيها الرئيسين تدگا ودزگا.
11. غانم، 1990، 35.
12. – يتعلّق الأمر بنقش دقّا المزدوج، ويعود إلى 139ق.م، كتبه مسيبسا تخليداً لذكرى أبيه ماسنيسا.