رافد علي
تميز مطلع القرن الماضي عربياً بتنامي روح الفكر بمختلف اطيافه، وفي كل الاتجاهات، وشهدت بالتالي الساحة العربية نزالاً فكرياً متشعب الأبعاد والأواصر، تراوح بين التقدمية والرجعية، او حتى المراوحة بينهما، فبرزت تباعاً أسماء لمعت في فضاءات الحوار والنقاش والنقد المتبادل. التيار المحافظ دينياً، كان دائماً في الواجهة لمقاومة توجهات التجديد والتغريب على حد سواء، بل إنه وقف صلباً عنيداً في مواجهة من قال بالطابع الدنيوي للخلافة، كما هو معروف في قضية الشيخ علي عبدالرازق.
لا شك في ان مصر في تلك الحقبة، ومنطقة الشام الكبرى نسبياً، كانت هي مسرح الحوارات الفكرية هذه، ما لم نقل إنها كانت أرض الصراعات بين تلك التوجهات المتنوعة. فقد كانت أولى الصراعات مع الدكتور منصور فهمي الذي قدم أطروحته لنيل الدكتوراه بفرنسا عام 1913، والتي تمحورت حول المرأة في الإسلام، منتقداً فيها نمطية التقليد الاجتراري في تقييد المرأة وحريتها. فقُوبل بعد عودته لبلاده بالسخط العام والتكفير الممنهج، وطُرد من الجامعة، التي عاد إليها عام 1919 بعد تلبيته لشروط التنازل عن آرائه في رسالته العلمية1.
كما أن لطه حسين، بعد صدور كتابه المشكك في أصالة الشعر الجاهلي عام 1926 نصيبا وافرا من ذاك السخط المدجج بمفردات التكفير والزندقة والاستجوابات الأمنية، تماماً كما نال صديقه الشيخ علي عبدالرازق بعد صدور “أصول الحكم في الإسلام”، الذي أثار ضجة كبرى اختلط فيها ثالوث السياسة والدين والشعبوية ضده. القضيتان، لطه ولعبد الرازق لازالتا، رغم الفارق في منهجية البحث، تدوران في فلك المحنة العربية والإسلامية المنصبة حول التعاطي مع إشكالات التراث الطاغي على الفكر والحياة. طه حسين في قضية الشعر الجاهلي تنازل بأن حذف من كتابه كل ما يثير الجدل، واعاد طبع كتابه تحت عنوان مختلف، ورغم ذلك ظل التوظيف السياسي للقضية يلاحقه مع صعود حزب الشعب للحكم برئاسة إسماعيل صدقي، الذي كان يعمل مع الملك في ظل استمالة الأزهر سياسياً أمام خصومهما. علي عبد الرازق تنازلاته الفكرية تمظهرت جلياً في امتناعه عن الحديث عن كتابه المذكور، ورفض منح ترخيص إعادة طبعه لأي دار نشر عربية، داخل مصر أو خارجها.
المفكر السعودي عبد الله القصيمي، الذي جاء للأزهر “كسفير” للحركة الوهابية في العشرينيات من القرن المنصرم، خصوصاً بعد إصداره كتابه “الثورة الوهابية” مقتحماً غمار المرحلة فكرياً بالقاهرة والصراع فيها، إلا أن تحولاً جذرياً سيطر على توجهاته من داعية وهابي إلى منازع شرس للطوباوية السلفية الوهابية مع كتابه “هذه هي الأغلال”. لم يسجل للرجل تنازلات حقيقية بعد ذلك في توجهه الفكري المناهض للمحافظة وهابياً أو أزهرياً، رغم محاولات لاغتياله، فقد ظل ينتقد ويصرخ في وجه التعنت المذهبي والتخلف، وحتى ضد مغامرات الساسة العرب بعد هزيمة 1967. بعكس صديقه خالد محمد خالد، صاحب كتاب “من هنا نبدأ”، الذي تبنى فيه الكثير من مواقف القصيمي في “هذه هي الأغلال”2، منغمساً في غمار فكرة النقد للقائم، إلا أن خالد محمد خالد تنازل في آخر حياته عن كل مواقفه تلك، بان سجل على نفسه تراجعاً عن كل أفكاره لصالح خصمه الأساس، المتمثل في التيار المحافظ بعالمنا الإسلامي.
الفيلسوف حسن حنفي، الذي كان اسما لامعاً في أوساط الحرم الجامعي، لا شك بأنه كان صاحب توجه فكري يتعدى المحافظة بكثير، من خلال ما كان يطرحه من أفكار، ولاختراعه مصطلحات فلسفية تخصه، تنال استحسان أقرانه بالجامعة، كانت قد بشرت بأن الرجل يخطو نحو تعزيز الحوار العربي- العربي لتلمس مسارب النهوض بالعرب، إلا أن حنفي، الذي عايش أطياف الفكر عربياً وبالغرب، سجل على نفسه في آخر عمره تراجعاً حقيقياً في أفكاره التنويرية لصالح التيار الديني مستغنياً عن روحه النقدية، الشديدة والحادة، تجاه اليمينية الدينية المقلدة والجامدة في كتاباته الأخيرة من حياته، ولعل المحاورة الفكرية الشهيرة بالسبعينيات، بينه وبين الجابري في باريس، والمعروفة ب “حوارية المشرق والمغرب”*، تعد دليلاً جيداً، يوضح مدى التراجعات، أو التنازلات الفكرية في مسيرة حياة حسن حنفي.
المفكر الجابري في نهجه بتبيئة المعاصر بما يخدم التراث لأجل تحقيق النهوض، والذي يسجل له التاريخ بإصداره ملحمته “نقد العقل العربي”، أنه قد رفع من مستوى النقاش الفكري العربي في مواضيعه المعاصرة، كما يعترف بذلك ألد خصومه، وهو جورج طرابيشي، الذي خصص من عمره 25 سنة لنقد مشروع الجابري. الطرابيشي في رحلة تعاطيه ونقده لمشروع الجابري، وبحكم تقلباته بين ضفاف الأيديولوجيا، وبحور الفكر اللذين عاصرهما بالمشرق العربي وبفرنسا؛ عاب على الجابري، كمثقف ومفكر، أنه عندما يتخلى عن العلمانية في طرحه عموماً يكون بذلك يقدم تنازلاً شديد الحساسية لصالح الصف التقليدي، أو الديني، وكأنه يهادن حركة التعصب الاسلامي وأسلوبها العنيف الذي تنتهجه تجاه الآخر بالساحة3.
راهنية الأسئلة المطروحة على هموم نهضة العرب، والتي لازالت تراوح بذات البقعة منذ عقود طويلة، تجبرنا اليوم على التمحص في ظاهرة التنازلات الفكرية التي يقدمها المثقف العربي التقدمي لصالح التيار المنافس، فهل هي بسبب شراء الطمأنينة للذات والسلامة؟! ام هو الاسترزاق البحت!، مالم نقل إن رجالات التقدمية لدينا كان منهم من يمارس “التمعش” الفكري في خضم محنة لا زالت خانقة بانحطاطها الحضاري للعرب.
هوامش:
* عنوان الكتاب “حوار المشرق والمغرب” صدر سنة 1990. وكان قد دار قبلها على صفحات مجلة “اليوم السابع” في الفترة من مارس إلى نوفمبر 1989. (المحرر)
1- الرسالة كانت بعنوان “حال المرأة في التقليد والتطور الإسلامي”، وقد ترجمت للعربية عام 1997 بعنوان “أحوال المرأة في الإسلام” عن دار الجمل، ترجمة رفيدة مقدادي.
2- من أصولي إلى ملحد. يورغن فازلا. ترجمة: محمود كبيبو. الهامش ص120. دار الكنوز الادبية. بيروت. ط 1.
3- هرطقات 2. دار الساقي ورابطة العقلانيين العرب. ط1. 2008.بيروت.