حوارات

التشكيلي عبد الرزاق الرياني : أنا أرفض الواقعية الفجة

التقاه وحاوره / مهنّد سليمان

الفنان التشكيلي “عبد الرزاق الرياني”

الحكاية ترسمها الفرشاة وتسبكها الألوان فترويها العيون التوّاقة لحُلم يُبحر إلى ما وراء القمر بعشرات التأويلات والتفسيرات، ونحن نُطل على ذاكرة لازالت محط شوق بصور حيوات الأمس على جميع الأصعدة الاجتماعية والثقافية والسياسية، الطقوس القديمة، الأزياء التقليدية، البيوت والدُور المفتوحة على عبق البخور، الخطوات المخضّبة بالحِنّاء، شرفات طرابلس التي كانت تُروِّج للياسمين والفل، مفردات قاموس اللهجة المحكية، كل ذلك يستبد بمهجة الفنان التشكيلي “عبد الرزاق الرياني” الذي يتبنى سلوكا واقعيا في تجربته الإبداعية مستوحيا من ذاكرة الأمس البعيد صهيل نبضه فلا تكاد عين المتلقي تميّز أوجه الإختلاف بين الحقيقة والخيال في لوحاته فخيال الرياني جزء من حقيقة زمن فُقد وتحاول فرشاته وألوانه استعادته مُجددا بصيغة منقحة تفوح بالزهر والعِطر، لنُصغي لحكايا لوحاته وصمت وجوهها التي لا نخشاها ولا ننفر منها بل نصافح بمعيتها ماضٍ تذوّقه أجدادنا وآباؤنا، ونلج من خلال أبوابها لمشهدية يقرأها علينا الرياني بأبجدية الألوان وصوت الظل وضحكة مخبأة بين التفاصيل.

التراث الليبي القديم عنصر رئيس ينهض عليه إبداعك التشكيلي، هل تستشعر بأنه قد صار مهددًا أم أنه ربما الحنين إلى مناطق الدفء في الذاكرة ؟
يقوم هذا الأمر على ركيزتين أساسيتين الأولى بالطبع هو الحنين والثانية البحث عن جذور الأصالة وبدوري أركز على العمل الفني فثمة رسامون كثر في العالم يتشابهون لذا لابد للفنان الواقعي أن يميّز عمله الإبداعي، فإذا كان الفنان سينحو ذات الأجواء والثيمات فلن يكون لإنتاجه الفني الفرادة المطلوبة لكن حينما يتبنى الفنان أسلوبا مغايرا يمس بيئته المحيطة وأصالته عندئذ سيحقق نوعا من التميز، هذا من جهة ومن جهة أخرى حريّ بالفنان أن يرسم ما يُحسّه ويلمسه عن قرب.
تحرص في كل لوحة على إبراز دقائق التفاصيل لدرجة الإبهار، ألذلك علاقة ما بمحاولة فهم أعمق للشخصيات من حولك ؟
من خلال عملي الفني أحرص كل الحرص على التعمّق في التفاصيل ومنحها أبعادا ثرية انطلاقا من شغفي بأهمية التفاصيل، وحالما أهمُّ بالشروع في الرسم لا أكتفي بالصورة رغم إن الصورة الفوتوغرافية أداة من أدواتي الفنية ألبس (الموديل) وألتقط له صور من عدة زوايا، لكن ظروف اليوم لا تسمح بتفرّغ (الموديل) كما في السابق فقد كان الفنان يشتغل على أعماله من خلال (موديل) يضعه أمامه بواقع جلسات أحيانا تمتد لساعتين وأحيانا أخرى يستغرق رسم اللوحة شهورا بمعيّة (الموديل) بينما أسلوب اليوم تغير كثيرا بعد دخول التقنيات الحديثة للمجال الفني، وبالنسبة لي لازلت أستخدم أداة التصوير إنما دائما أفكار أعمالي أستلهمها من محيطي، فعلى سبيل المثال إذا رسمت لوحة يتوفر فيها الرداء التقليدي فمن الضروري أن يكون هذا الرداء أمامي مباشرة حتى أستشعر ملمسه ولونه الفعلي فالكاميرا مهما بدت متطورة ستغيب عن عدستها أشياء، وأحيانا لون البَشرة الذي أمزجه وأخلطه بالون على الجسم ذاته لأتأكد من حقيقة اللون ومن كونه ليس بعيدا عن الأصل، وبرأيي كلما إزداد الفنان تعمقا في التفاصيل أقنع المتلقي بعمله.

هذا يعني أن التفاصيل تستهويك إلى حد كبير ؟
نعم، التفاصيل تغويني وتستفز الفنان داخلي كثيرا

وجوه الناس تكاد تطغى على جُل منتوجك الإبداعي ما يوحي للمتلقي بأن قضية الإنسان من خلال وجهه تبدو شغلك الشاغل، هل تجد بأن للوجه بلاغة توضح مضمون الرسالة الفنية ؟
لا ريب بأن الإنسان هو محور العمل الإبداعي، ووجه الإنسان هو مرآته ونافذة على أغواره الدفينة، فأنا مثلا أميل للتواصل مع الآخر وجها لوجه أفضل من التواصل معه عبر الهاتف، فالشعور في هذه الحالة يتضاعف بشكل أكبر، والوجه الواحد فقط بالإمكان إقامة معرض كامل له لما يحمله من خصائص وملامح معبرة، والوجه البشري تتنوع إنفعالاته المرهونة بحالته النفسية .

تُتهم مدارس الفن التشكيلي على مختلف مشاربها بأنها نخبوية الهوى وغير مفهومة للكثيرين كونها تخاطب ما يعتمل في النفس البشرية من تقلبات مركبة، أنت كفنان تشكيلي لماذا تبنيت الخط الواقعي في مسارك الفني ؟
المدرسة الواقعية في الفن التشكيلي تظل إختيارا يخص الرسام يتأتى من طبيعة إيمانه بقيمة معينة كمن يولد على فطرة الحب، وبذا لا يصح أن تتنقل فرشاة الرسام ما بين التجريدي أو الواقعي وما نحوهما، والإيمان بشكل فني ثابت هو ما يجعل الرسام يمضي على مسار متوازن رغم إن هنالك عدة فنانين يتنقلون من مدرسة لأخرى لكن فيما يخص تجربتي والمسار الذي أتبعه أؤمن به ايمانا كايماني بالدين، علما بأني معجب بأعمال تنتمي للمدرستين التجريدية والإنطباعية.

هل يشغلك بأن تكون مفهوما لدى المتلقى ؟
عندما أشتغل على تنفيذ لوحة ما أحبذ عادة التركيز على الأشياء التي تخصني وأُعنى بها كإنسان فمتى ما كنت شفافا مع ذاتي ستصل رسالة عملي للمتلقي ويُحسّ بها فأنا في نهاية المطاف إنسان مثله، وهذا ما يجعل أناس ليسوا ليبيين يهتمون بأعمالي كوني أعبر عن حالة الإنسان أينما وُجِد.

اشتغالك الرؤيوي على ذاكرة الأمس أهو هروب من واقع مثقل بالهموم يدفعك للتشبث بحكايا الماضي الوردية ؟
الخط الذي أتبناه منذ بواكيري الأولى هو الخط الواقعي الذي تغلب عليه الجوانب الجميلة، فالواقعية تتوفر على جملة من الخطوط المختلفة فبعض الفنانين يميلون لرسم القبيح من الأمور لإستفزاز المتلقي وفي هذا المسألة أجدني أختلف معهم فأنا لا أميل لإستفزاز الآخرين، وبالتالي حينما أرسم أعتني بالنواحي الجمالية والتي أراها مثالية بعيني وأحاول تهذيبها وتحسينها إذا ما رسمت شارعا في المدينة القديمة أعمل على إلغاء ما قد يزعجني مما أراه قبيحا ليكون المشهد في لوحتي مبعث على السلام وكما أريده لا كما هو موجود واقعيا وهذا ما يدفعني لرفض الواقعية الفجّة والقبيحة .

المرأة (اللا) تتجلى في أكثر من لوحة لك بفتنة أزيائها وعنفوان إغوائها كيف كرسّام تختمر في حواسك الفكرة بنكهة اللون ؟
الله خلق الإنسان في أحسن تقويم وتوّجه بالجمال وهذا يدفعني دائما للبحث عن كل ما هو جميل، يُعد لباسنا المحلي مدعاة للروعة والإفتخار وفيما يتصل بالمرأة فإنما المرأة الليبية قديما كانت تتمتع بذائقة رفيعة جدا في أزيائها وملابسها ما جعلها تحمل خصوصية بارزة عن المرأة المعاصرة اليوم فنموذج أجيال اليوم إختلطت عليهن الهويات ما بين المحلية والمستوردة من الخارج وهذا أيضا ينسحب على الرجل في المقابل.

الحُزن سمة تتقاسمها وجوه أبطالك لاسيّما النساء منهم، إلى أي مدى ترى حزن وأسى الوجه الليبي؟
أرصد العديد من التعليقات وردود الفعل حول هذا الخصوص من قبل بعض المتابعين والمهتمين، وأعتقد أني لا أتقصد تبيان مشاعر الحُزن لوجوه شخوص لوحاتي إطلاقا فإكتشفت إن معظم الوجوه الظاهرة في لوحاتي تميل لنوع من الحزن والهدوء بعيدا عن الإبتسام والضحك وستحمل أعمالي مستقبلا نوع من التغيير في هذا النمط.

ألذلك سبب منطقي برأيك ؟
لا يوجد سبب محدد، كان الأمر يحدث معي دون قصد مسبق وبدأت في ملاحظة هذا الشيئ لاحقا .

نفهم مما قلت أن بعض الملاحظات التي تلقيتها دفعتك للإنتباه للأمر؟
ربما تكون أحد الأسباب نعم، فعندما أرسم وجها عليه ضحكة أو إبتسامة أشعر بأنه أقرب للصورة العادية أو للحظة الواحدة لكن حين يظهر الوجه صامتا أستشعر به موجودا وقائما أمامي وحالته تظل لفترة أطول.

حدثنا عن تحضيراتك الجديدة ؟
نعتزم قريبا إقامة معرض جماعي مشترك هو نتاج لورشة عمل توليت الإشراف عليها إمتدت لما يقارب 4 شهور ضمت حوالي 11 شابا واعدا من مناطق ليبية مختلفة وتمحور مضمون فكرة الورشة حول رسم المساجد العتيقة بطرابلس، وقد تقاسمت الفكرة مناصفة مع بيت اسكندر للفنون الذي سيستضيف إقامة المعرض، كما أجهّز لمعرضي الشخصي المقبل مع أول فرصة وأعمل على تجهيز 11 لوحة جديدة.

مقالات ذات علاقة

المسرحي عبدالله هويدي: هناك مَنْ يسعى لتطوير الفن المسرحي في ليبيا أدبيا وفنيا وهناك خبرات تبشر بالخير

المشرف العام

سونيا الفرجاني … تُشفيك اللغة عبر شفتيِّ القصيدة

مهند سليمان

نجوى بن شتوان في «روما تيرميني»

محمد الأصفر

اترك تعليق