من أعمال الفنان التشكيلي علي الزويك
سرد

ثلاثُ نمْلات تعبرُ كِتابا *

2

 ZWIK_04

            أجل : عندما لا تعثر عَلَيَّ الكلماتُ ، أنا ضائع . الكلمات التي كانت في يوم ما تناديني ، لم أعد الآن اسمعها كما كنت قبل أن ينهار جسدي ، حيث كل شيء تحت أصابعي يتحول إلى كلمات ، كل شيء: المتحرك والساكن والعصيّ واللين ، النساء والأحلام والطعام والمدن والبحار والأصدقاء / كل شيء : التاريخ والحكمة ، وسفر الأنبياء،  والجنود  ، ولغة الرياح ، والظلال ، وقداسة العزلة  .

<><>

      رائحة الخوف تصّاعد من خطواتي ، بينما أقطع الشارع بصعوبة ، مرتابا وحذرا من تهور السيارات المسرعة ، أضرب الإسفلت بوهن صوب الضفة الأخرى ، حيث تربض حديقة ميتة ، كانت في يوم ما سجنا ، يسمى بورتا بينيتو . فيما طلقات الرصاص تحدث ضوضاء حدّ التقاطع . فيما الثوار المتربّصون فوق عربات الدفع الرباعي ، حاملات المدافع الرشاشة لا يكفون عن إطلاق نيرانهم الطائشة ، فيما ثلة زرازير تجفل بكثافة لا أثر لها ، فيما أصوات تكبير ترتفع  . كنت كهلا ، وعليلا أمشي بوهن دونما إثارة أيما شك في كوني محض ظل يتعثر . فما من أحد هنا ، يمكنه الإصغاء لروحي . أنا نكرة . حتى العجوز أمي ، بعد اعتلال جسدي  ، صارت تزدريني . فلطالما دللتها واحتفيت بها . جلبت لها اللوز والرمّان ، والجوافة التي تحبّ . كان ذلك قبل أن تتهدّم أركاني .  حتى أننا لا نلمس درهما واحدا من معاش العجوز الضماني . أمّا الآن ، وقد تحزّبت الصحف وتمذهبت الإذاعات ، والتي على كثرتها لا تقيم وزنا للأدب ومريديه . ضاقت اليدُ وغابت الحيلة ، إذ غدا المجال نهباً للمتسلقين من دهاقنة السياسة . هم وحدهم من يهيمن الآن على المشهد .  وبذا لا مناص من الاتكاء على معاش العجوز . كانت  هذه حلقة الضعف التي جعلتني أستجيب أخيرا لذلك الخبر المتعلق بتعويض المحاربين القدامى ، الذين زجّ بهم  في حرب تشاد .

<><>

   من بعيد ، بانت واجهة مقر المنظمة . هناك حيث شجرة التوت .  الزحام على أشده . وكلما اقتربت أكثر ، بات من المتعذر ، محض التفكير في اختراق الحشد الصاخب والمتهالك بعنف ، دونما انتظام حول شباك ضيق ، بالكاد يتيح رؤية رجلين غاضبين ، كانا يرتديان سترات عسكرية مرقّطة، ولا يكفان عن تعنيف القطيع المتدافع بمناكب عشواء .

      كم آلمتني رؤية سحناتهم المدبوغة بعراء الفاقة ، وأيديهم الخشنة ، المتصالبة والمعروقة وهي تتحفّز هائجة ، أو تتعلّق بقضبان النافذة الحديدية ملوحة بأوراق مجعلكة ، لكي يتاح لأصحابها تسجيل أسمائهم ضمن قوائم المحاربين القدامى في تشاد ولبنان وأوغندا وغيرها من مناطق الشؤم ، لعلّهم يظفروا أخيرا ببطاقة تعريف تثبت رسميا ، كونهم من متضرري تلك الحروب التي خاضوها رغما عنهم  . يا الله هل يكفي أن يكون المرء جريرة جور ، ومنجم إجحاف ، وصناعة غبن وجهل ومرض وخديعة ، لتنصفه الأقدار بعد لأي ، بصفة الضحية . دلّني أحدهم على لوحة إعلانات ، أُسندتْ بإهمال حدّ الحائط ، على يمين باب المقر المقفل . دونت في مفكرة جيب أسماء الوثائق المطلوبة ، وعدت أدراجي خائبا ، أفكر فيما سأقوله للعجوز ، والتي تظن بأنني سأقبض تعويضا ماليا مجزيا ، حال مثولي أمام اللجان المختصة .

<><>

      عندما شرعت في كتابة : ثلاث نملات  تعبر كتابا  ، كنت أغادر نومي وأنا أفكّر في الحياة وحدها التي يتعين عليّ إنقاذها . لدواع كثيرة ، من بينها مكابدتي الطويلة للمرض ، وأن ما يحيط بي أمسى مشرعا على خراب مفتوح . لعل هذا  ما يسمّى بالفوضى المستدامة . وأن الموت وحده هو ما يكتسح عناوين الوقائع في هذا الوطن . لذا تعذّر هنا ، إفشاء كل شيء ، كما ترتّب على الكلمات أن تكون أكثر تمهّلا وحيطة ،  وهي تروز ما يقال . ليس خوفا ، أو تحفّظا ، أو خشية فضيحة ، إنما تحاشيا لتطفّل الغثاثة ، لحظة ثمالة المخيلة. ولأنني لست بالسارد الدربة ، بل محض منقّب هاو ، وحفّار ذاكرة يبحث عن نفسه  ، قد اقترحت هذا التربّص ،  بالقدر الذي يتيحه التحايل على مقتنيات السرد وآلة الراوي  ، مستأنسا بين وقفة وأخرى ، التزود بكثافة الشعر في محل السرد . هذا ما تبدّى حين نذرت مخيلتي  لاستدعاء تلك الصور والحكايات التي تتعلق بتقاليد الثكنات . فيما لم تكن طرابلس في الواقع سوى ثكنة . لذا كتبتُ  ما كتبت ،  فقط كمحاولة  لإعادة تأثيث المباد من الذاكرة المهجورة ،  من الإنسان الذي تخلى عن وجدانه بدءا من  تلك اللحظات التي شهدت نزوح  الشعر عن مضارب اللغة  . ربما لأن الوجدان صار منبوذا ، وما الحياة في هذا الجزء من العالم ، سوى بهيمة تتمرّغ .

___________________________________________

*مقطع 2 من سردية : ثلاث نملات تعبر كتابا .

مقالات ذات علاقة

رواية ديجالون – الحلقة 15

المختار الجدال

رواية الحـرز (46)

أبو إسحاق الغدامسي

فصل من “الرسام الانكليزي”

رزان نعيم المغربي

2 تعليقات

مثقف ليبي 1 يونيو, 2015 at 07:05

لكتابتك نكهة خاصة تميزك في مجموعة الكتاب العرب

رد
مفتاح العمّاري 2 يونيو, 2015 at 16:46

مثقف ليبي . هذا لطف منك ، وكرم أرجو أن أستحقه. شكرا

رد

اترك تعليق